“الموضوع شكله كبير” يلقي بتلك الدعابة إلى أحد المارة، صودف أنه كان يتواجد بنفس الشارع الذي يقطعه عادة كل صباح للوصول إلى مقر مركز الأبحاث السوفييتي حيث يعمل منذ 23 عاما.
كانت قطتان قد بدأتا المواء، كل واحدة منهما تحذر الثانية، مع تقويس الظهر والذيل وجعل الجسد يتخذ وضعية الاستعداد للقتال. فكر أن ينهي الشجار قبل أن يبدأ. كان يكفيه ركلة في الهواء أو الصياح “ششششش”، تلتفت المتشاجرتان على إثرها، تهربان إلى أقرب رصيف أو حارة، تكمنان ثم تستكملان المعركة لاحقا. لكن نيقولاي راجييف إخصائي سلوك الحيوان والحائز على وسام لينين عن إسهاماته الاجتماعية لم يعبأ بحل القضية سلميا واختار أن يتبادل مع أقرب رجل يتمشى بجانبه دعابة أو نكتة سخيفة. “بالشايا بروبليما” -مشكلة كبيرة بالروسية- قالها للشخص الذي تنبه للمغزى من العبارة وضحك دون رد.
كانت تلك أيام الغزو الألماني لروسيا، صيف 1942، ذلك الذي وصفه الروس بخيانة الشقيق للشقيق، “أين معاهدة عدم الاعتداء الموقعة بين موسكو وبرلين” “خاننا الرفيق أدولف هتلر”. من هول الصدمة واجتياح النازيين واقترابهم من العاصمة ظهر ستالين للمرة الأولى في حياته خانعا يطلب من الجماهير الدفاع عن الوطن الأم. وفي المعسكر المناوئ، اتفقت دول المحور على تسمية العملية “بارباروسا” ونظر الألمان للمسألة لا كخيانة أو غدر أو خرقا للتعاهد بل مهمة سامية عليهم تحقيقها لاستكمال مشروع الجنس الآري النظيف. لم يعبأ نيقولاي بهذا التهديد الجيوسياسي وانهمك في دراسة سلوك القردة وذوات الأربع بمختبره المغلق دائما والمشبع بالهدوء.
يفتح العالم الجليل الأقفاص، يجري التجارب للوصول إلى إجابة واحدة “لماذا تخاف القطط المنحدرات، وتتجنب المرتفعات؟” يربط بين هذا الحرص على الحياة وبين خشية الإنسان نفسه من المجهول، “لماذا يحذر الإنسان المجهول والظلام؟.. هل أخطأ الزميل داروين؟ يبدو أن الإنسان أصله قطة” يخلص إلى هذا الاستنتاج، متخيلا نفسه بمخالب وفروة ناعمة لا يقرب أي ناحية حالكة في شوارع ستالينجراد أو غيرها من المدن كي لا يقع المحظور.
ليلة أمس مر على العم ليف ليفوفيتش الطيب، رجل سكير لا تفارق رائحة الفودكا الرخيصة جوفه، يستطيع من شاء التعرف عليه إذا زار الأطراف الشمالية للمدينة، بياقته المبقعة دائما ببقايا السوائل الكحولية وملايين أعقاب السجائر أسفل أريكة حجرية اتخذها مسكنا له في الحديقة العامة، يحبه الناس ويهدونه الطعام والشراب مقابل حكايات يقصها عن غابر أيامه، يعتبر نيقولاي العم ليف مصدرا من مصادر أبحاثه، يعلم الأخير الكثير عن اضطراب ما بعد الصدمة. يحكي للعالم الجليل عن بائع الأيس كريم الذي أحب سيدة بولندية خانته مع أقرب أصدقائه، ومن وقتها وهو ينفجر فزعا كلما لمح ظل امرأة في الطريق. العالم الجليل يحاول إقناعه بالعكس: ليس صحيحا يا سيدي، لا تحتاج الكائنات إلى صدمة أولى، الشمبانزي نفسه يخاف بشدة من الثعابين حتى إذا لم تكن له تجربة سابقة مع لدغاتها، إلق حبلا على شمبانزي رضيع وسيقفز من مكانه لا محالة”. لا يقتنع العم ليفوفيتش، يحتج “لا خوف بدون صدمة أولى”. لا يقتنع نيقولاي.
بعد فشل الغزو الألماني لموسكو، لاحظ السيد نيقولاي أخصائي سلوك الحيوان، عادات جديدة تولدت بين الروس، الربط بين الشر وبين كل ما هو آت من برلين، على المقاهي يغير أحدهم دفة الحديث إذا ما حاول الجالس معه على الطاولة بدء كلام أو حوار عن الألمان، وخلال السنوات التي جاءت بعد نهاية الحرب نسي الذين يتقنون الألمانية قواعدها وكلماتها لأنها لم تعد لغة مرحب بها للتداول، التلفظ بها يثير المخافة والهستيريا لدى أي روسي يتذكر أهوال المعارك وكابوس أن تستيقظ صباحا فتجد النازيين قد وصلوا للكرملين. رغم معرفته وتحدثه بالألمانية لم يكن العالم الجليل ليقدر أن يلقي التحية على العم ليف بتلك اللغة. اعتاد صباحا على “جوتن مورجن” في المساء “جوتي ناخت” و”دانكشن” تعبيرا عن الشكر. كان ليف يرد التحية لأنه هو الآخر يعلم الكثير من كلماتها. الآن صارت ألفاظها كالتعاويذ تستجلب معها الشرور واللعنات والمصائب والفظائع والكوارث، تغرق الأجساد في شلل مقيت كمرضى الفصام ولا يتمكنون من تحريك ألسنتهم.
كره نيقولاي المبالغة في الفزع و”الأفورة” في رد الفعل الخائف سواء بعد صدمة سابقة أو دون. هو على يقين أن هناك من يتخاطبون بالألمانية في بيوتهم، فإذا غادروها لقضاء حاجة كتموها في قلوبهم حتى يعودوا لغرفهم. ذات مساء استوقفه أحد الشحاذين في ميدان “كراسنايا بلوشاد”، طالبه بالتبرع له بمائة روبل -مبلغ ضخم للغاية في تلك السنوات- وإلا صرخ في كل اتجاه أن ليف يعرف الألمانية. تخشب العالم الجليل وبات أقرب إلى الشمبانزي الذي ينتفض لمرأى الثعبان. منح المتسول ما يريد من مال المساومة والابتزاز. وعلى ضوء شمعة صغيرة بمعمله كتب على ورقة سيدسها في مكان أمين:
إلى العزيز داروين. أسف ..لقد كنت محقا ..الإنسان أصله قرد.
اقرأ أيضًا : محمد عطية يكتب : «البرغوت»