كيف تقيس المسافة بين نهدين؟ بلمعان حزنٍ لا يُرى.. في العتمة الموغلة، لا حبالَ ولا جسور تردم هوة الضياع.
وحده الخيط الذي يرتق المسافة بين زيتون عينيها، بإبرةٍ خذلها الشِعر، يلعنُ الظلام.. قلبها جنةٌ لا تُبالي، وعقلها يجاهدُ ليستردَّ الشَّفافيَّة.
امرأة تحتاج رصيفًا تأنس إليه، حين تمشي بنظراتٍ غائبة.. تزهر بالوصال وتورق بالتخيُّل، حتى حين تتعاقد الشمسُ مع ظلها الحاني.
شجرةٌ تنبتُ النعومة فوق لحاء رقتها، ويغازلها نسيمٌ انفصل فجأةً عن هواء الخريف.. في عطش السَّواحل، يتعلَّمُ الرجال فن السُّقوط في الجاذبية.
لا منجاة للنقطة أمام سطرٍ منفلت.. هل تذهب يوميًا لسوق الثياب المستعملة أم تنعطف لشراء رغيف أمل؟
على أي حال، ستعود إلى البيت برايةٍ منهكة، لتعدَّ لنفسها طبقًا من الحزن مملحًا بالعبرات والأسى.. على طرف عود بخور مشتعل، تتمنى حُبًّا أكثر شراسة، وهي تتفقد -في ثنايا نهدها الأيمن- حبة حمص ناتئة.
«الحرب تكبر، الكتلة تكبر».
والحرب تلتهم كل من نُحِبُّ.. وكل ما نُحِبُّ.. حتى أجسادنا وأرواحنا العالقة.. الكتلة غامضة، مثل وحشٍ خارج التقاويم.. تعالجها بقصيدةٍ رنانة ونصٍ لا يشيخ، وهي تتساءل: «لماذا يبقى الموت دومًا جائعًا؟».
تواسي نفسها قائلة: «ربما كانت شامة تخطّها الرّيح، أو نجمةً منفية تطلب حق اللجوء إلى جسدٍ منسي لامرأةٍ تعلّمتْ التدخين من الأشجار».
الرمانة البرية، تُبِّللُ قلبك بالموسيقى وهي تهمس: أنا على عجلة من عمري.. سيدة الكبرياء، لا شالَ يحميها من شتاءات العالم.
تدخنُ سيجارة أخيرة، قبل أن تذر رمادَها فوق الجرائد والمجلات المكومة.. تحسم أمرها، قبل أن يستقر الليل على كتف المدينة: لا أريد أن أنام يومًا بنهدٍ وحيد.
في غرفة الأشعة، كل شيء معدٌ سلفًا: الإضاءة والسينوغرافيا والطبيب.. لصور «الماموغرام» قسوة تناقض النسيج المهترئ. تُقشِّر الجسد وتصهر أقفاله المنيعة.
الأشعة ترشد الناي إلى نبع الأنات الكتيمة.. الكتلة إبريق شاي نحاسي يغلي بمائه.. صعقة البرق تؤلم، وصخرة الرعد تهتز.
من ينزع الآن جذور الصفصاف عن شجرةٍ خائفة؟.. من يعض اللحم المتناثر والعاطفة المنسالة كحريق الآلهة؟
آه..
يا للخيالات التي ترجمنا!
يا للقفازات البيضاء الملطخة بدماء الكرز النازفة!
آه..
يا وساوس.. يا هواجس، ما أبعد المسافة بين اللوعة واللغة!
في البلاد التي تنأى كثيرًا عن قمرها الأليف، تحلم برائحة النهار وشجر الحور وزهر اللوز وزجاج النافذة.
ندبة نهدها شاهدٌ أخير على هزيمةٍ تصفعك وهي تنمو ببطء.
تفتتح كل مساءٍ عزلتها، كما لو أنها حبة طلعٍ دائخة.
ها هي ذي ترتدي معطفها الثقيل، كي تتقي في غربتها سهام الوحشة والبرودة البائسة.
ها هي ذي هناك، تحرسُ غيابَ الأمل.
اقرأ أيضًا : د. ياسر ثابت يكتب : إعلان الحرب على الشرفة!