منوعات

محمد عطية يكتب : زيارة إلى بيت ومقهى مولانا سيد درويش

– التاريخ 7 نوفمبر 2022
– المكان قرب المسرح الروماني بالإسكندرية
أقف أمام تمثال لرجل يبدو كقائد عسكري من العصر الخديوي، يؤكد هذا السيف الذي يستند عليه راشقا إياه في الأرض وكأنه انتهى لتوه من كسب أرض من الأعداء والانتصار في الحرب. له عينان مبجلتان مخيفتان طيبتان، لا أعرف كيف أصف هذا المزيج لكنك تحبه وتخشاه في اللحظة نفسها.

أدور، أطوف حول التمثال الذي اتخذ تلاميذ وطلاب، تلميذات وطالبات -أكبرهم وكبرياتهن في الصف الأول الثانوي- من قاعدته أمكنة للجلوس وتبادل الهيام ودعابات الحب الأول. ابتعد بعد أن أكون قد أعيتني كل الحيل في معرفة اسم هذا الرجل الحجري المطربش وزيه الذي يدلل على موضة الحكام منذ منتصف القرن التاسع عشر. لا وجود للوحة تعريفية. أعبر الشارع إلى الجهة الأخرى حيث كوم الدكة.

منذ هبوطي من العربة في حي المنشية وأنا ميمما وجهي شطر هذه الناحية. قاصدها. كوم الدكة حيث عاش الشيخ ومات قبل آوانه.

رجل كان في انتظار الأوتوبيس أو أحد اصدقائه تطوع لإيصالي إلى حيث سألته، نسي ما كان ينتظره وسار معي أمتارا

– لو سمحت متعرفش فين قهوة سيد درويش ؟
– أني قهوة فيهم؟، الأصلية ولا السكة؟، فيه عشرين قهوة بتحط صورة الراجل عشان الزباين
– الأصلية طبعا يا ريس
– تعال معايا.. بص لما تحب تروح قهوة الشيخ سيد، تقول للناس: عاوز أروح القهوة اللي كان بيقعد عليها الشيخ سيد
– تمام

أمتار قليلة ووجدت نفسي أمام طريق يصعد إلى أعلى في تدرج، درب يذكرك ببيروت أو قبرص التي لم أرها إلا في الأفلام وفي مسلسل واحد فقط هو رأفت الهجان. شكرت الراجل وصافحته باليد قبل أن أودعه، عاد هو إلى النقطة التي كان يترقب فيها وصول وسيلة نقل أو صاحب عمر سيجلسان معا على مقهى آخر ويدخنان ربما الأرجيلة في نسمات نوفمبر.

بتمهل وتريث صعدت إلى الطريق الجبلي الذي احتوى في طرفه على جزء سُلمي يُسهل على المسنين والبدناء الصعود، لكنني فضلت الأصعب كما يفعل أي مريد في معراج اقترابه من القطب الصوفي الأكبر.

بسطاء في كل مكان، من الذين غنى خالد الذكر عم سيد لأجدادهم، سيدة سبعينية من أمام متجرها المتواضع ترشدني إلى مقهى الدرويش: “شوف يا حمو امشي كده على طول أو اقولك امشي مع الراجل اللي قدام دا، خد يمين محل الجزم..هتلاقي جامع ..هناك” “تسلمي يا حاجة الله يكرمك”.. ثمانيني طيب آخر يكشف: “الشارع الجاي كان ساكن فيه ابن الشيخ سيد ..اتهد وبقى برج كبير”.. أعلق “إذا كان الإنسان نفسه بيموت يا حج ..البيوت مش هتموت..ربنا يديلك طولة العمر” .. بحور من السماحة والود والأخلاق تعلو وجوه هؤلاء السادة من الطيبين -هكذا وصفهم أحمد فؤاد نجم في تتر مسلسل زيزينيا..هذه المقدمة هي الإسكندرية بكل ما تعنيه الكلمة كما أن “رمضان جانا” لعبد المطلب هي رمضان بكل مشتملاته. إسمعوهم في أي جزء زمني من العام وستفهموا مقصدي- بعد مجاهدات مع الشوارع الصغيرة المبهرة والباهرة بالبيوت الزمانية والتاريخية الممزوجة ما بين يوناني وإيطالي وبلجيكي وشعبي أرابيسكي قديم، بعد التقاطات كثيرة بالكاميرا خاصتي، وجدت المقهى وعلى واجهته صورة صغيرة لخادم الموسيقى. قبل الدخول للمقهى عايشت نوعًا من الوجد الغريب.

في الساحة أمام المقهى الدرويشي بالإسكندرية هناك سكة ضيقة منحدرة للأسفل، يرتفع فوقها منزلان أو ثلاث، عمرهما يتجاوز المائة عام بالتأكيد، أصابني ما يشبه “التبلم”، سكون الحركة والقول. تنمل جسدي مدهوشا وأنا أنظر لتلك السكة التي بالتأكيد نظر إليها سيد ومر بها أكثر من مليون مرة في حياته. شاهدت هذا الطريق من قبل لكن ليس في عالم اليقظة بل في حلم قديم، ربما يعود إلى ما قبل عشر أو اثني عشر عاما مضيا، بنفس الضيق وهيئة الأبنية بل حتى ولون الطلاء القديم.

كانت الفكرة الغريبة التي اقترحها عقلي لحل هذا اللغز “العويص” والبديع هو أن روح سيد درويش تنتقل عبر أغانيه وأن كل من يدمن تلك الأغاني ويحفظها عن ظهر قلب تلازمه تلك الروح بما عاشته على الأرض وفي هذا الحي البعيد بوسط الإسكندرية قبل ما يزيد عن مائة عام. ابتسمت لهذا الاقتراح وطالبت عقلي بالصمت لا استهزاء به ولكن للتفكر والتدبر فيما يقوله وعيش اللحظة والاستمتاع بمشهد المنازل والسكة المنحدرة، وقطعيا تذكر الحلم العتيق.

نعم حدث من قبل أن شاهدته وشاهدت هذه البيوت البنية الفاتحة رمادية العبق بالإسكندرية. دلفت إلى المقهى. أحضر لي القهوجي شايا وكوبا من الماء.

تزامنا مع تدانيه من طاولتي وفوق يده اليمنى صينية الكوبين، ساخن وبارد، ناشدته التقاط صور لي بالمكان
– أنا جاي من أخر الدنيا عشان أتصور مع الشيخ سيد
– الشيخ سيد دا كان رجل ثورجي
– بيقولوا مات بالكوكايين بس اعتقد ان الإنجليز هما اللي قتلوه
– لا لا

سعيت لالتهام المكان بعيني، على اليمين دورة المياه مغطاة بستار ومن فوقها كتب “وجعلنا من الماء كل شئ حي” . قاطوع خشبي يقسم القهوة إلى جزئين، كتب فوقه “ولسوف يعطيك ربك فترضى”.

على هذه الكلمات والعبارات والتناصات التراثية وعلى الخطوط الهندسية التي تزين الجوانب والجدران كنوع من الديكور جرت وانداحت وانسابت أعين الدرويش الجميل.

هل كان يسرح في سنا هذه النافذة التي جلست أنا بجوارها وهو يلحن “خفيف الروح بيتعاجب..ما بين الرمش والحاجب -رقصت عليها ملكة البهاء ومتسيدة عرش الحسناوات هند رستم في الفيلم الشهير عن سيد بطولة كرم مطاوع..كانت تطفئ الشموع واحدة واحدة قبل أن تستقر في حضن الموسيقار المحب لاعبة دور جليلة الراقصة. أنا أيضا أحب جليلة الراقصة إذا كانت في حلاوة وطراوة ودلال وقدرة هند على جعل الحياه فردوسا من الفرح- هل كان أبو السيد ينظر إلى الساحة المنبسطة أمام مقهاه وهو يؤلف “ضيعت مستقبل حياتي” أو “الشيالين” أو”الجرسونات” أو “قوم يامصري” أو “أنا المصري”. ماذا كان يدور في هذا المقهى تحديدا قبل قرن من الآن؟. لا أعلم لكني عيناي ظلتا معلقتين في البيتين الحُلميين وفتاة تٌدلي سبتا من أمام غرفتها الارتجالية فوق سطح أحدهما. أغير موقعي واتخذ كرسيا آخرا أقرب إلى الخارج بينما يطلب مدير المكان من القهوجي تغيير القناة:

– كفاية بقى يوميات ونيس بقالها 50 ألف سنة
– طب ايه رأيك يا حاج.. بايدن اهو تتفرج على بايدن؟ ..الخارجية الأمريكية تطالب …

لا يكمل ..يتوقف تقليب القنوات. أنظر للوراء فأجد في الشاشة فيلم “نشيد الأمل” وأم كلثوم في شبابها – عينان فرعونيتان مثيرتان ووجه بض منير ومفعم بحمرة الحيوية وشعر فاحم كليل مصفى يبعث على طمأنينة – تغني الست “قضيت حياتي”.. يا إلهي أم كثلوم داخل الشاشة وسيد درويش خارجها . اثنان في مكان واحد ..ما أكرم السماء وما أجودها حين يتعب المرء كي يحظى بوصال الأحباء.

أحاسب النادل الذي عدني منذ اليوم صديقا وأخا له. تمر سيارة أرقامها الثلاثة الأولى (317) يفتر ثغري عن ابتسامة عجب أخرى. إنه عيد ميلاد سيد درويش. ولد في السابع عشر من مارس. روحه تحل على المشهد بأكمله. التقط صورة أخرى بجانب منزله المهدم والذي لم يبق منه إلا سور في مستوى قامة رجل طويل، سور تشع منه أضواء لا يلحظها إلا المتيمين بترانيمه وأنغامه. يهمس بائع الكباب والكفتة -القريب- لزميله عني: الراجل جاي من أخر الدنيا عشان يشوف بيت سيد درويش. على بعد ياردات رسم شخص ما -يحب مولانا الدرويش- صورته على بوابة عمارة حديثة.

أغادر.. أهبط نفس الطريق الصاعد بالعكس فيتحول اسمه في عقلي إلى “منحدر”. لافتة زرقاء فوقه “شارع السيد البدوي” بالإسكندرية. استنبط أن والد عم سيد أسماه هكذا تيمنا بولي الغربية صاحب الكرامات. ربما وربما لا. أمر بالنقطة التي قادني منها شخص كان ينتظر الحافلة أو صديق. لا أجده. لا أندهش. ماذا يدفعه للبقاء؟ .. على مرمى البصر تمثال القائد العسكري من القرن ما قبل السابق. يجيبني سائق أسمر كان بصدد إصلاح شئ ما في سيارته: “دا تمثال الخديوي إسماعيل”..أنظر لـ”سمعة” وسيفه المولج بالقاعدة الحجرية. وأكمل طريقي عبر شارع صفية زغلول مدندنا من طقاطيق الدرويش:

والله تستاهل ياقلبي ..من زمان ما كنت فاكر
انت أسباب كل كربي..وانت أسباب ما جرى لي
ايه بقى اللي هيواسيني بعد ما انهدت آمالي
إذا كان حظي ناسيني ..مين هروحله ..أشكيله حالي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى