لا ألتزم بوقتٍ في الكتابة ، وإن كان الليل لي هو الوقت الأبهى ، لأنني بحكم نشأتي في الريف لا أحب الزحام والضوضاء والضجيج.
( فمثلا منذ اشتريت سيارةً ، لم أفتح نافذة قط ؛ وأنا في القاهرة ، أو غيرها من مدن مصر ، لأنني أعتبرها بيتي الهاديء أيضا ، كما أنني أحب أن أكون فيها وحدي ، لأمنح نفسي وقتًا للتأمُّل والتفكير والتذكُّر ، ولذا أشعر بسعادةٍ في السفر وقيادة السيارات ).
ولهذا اخترت منطقة المعادى الهادئة مكانا لسكني في القاهرة ، التي ما تزال مدينةً غريبةً عليَّ ، فأنا لا أرتاح إلا في قريتي ، والريفي بطبيعته يخاف المدن الكبرى ، حتى في سفري لا أرتاح في المدن الكبرى خصوصا عندما تكون أسمنية المبنى والمعنى .
وقبل عام 1991 ميلادية كنتُ لا أستطيع الكتابة إلا ليلا ، ويبدو أنني كائن شتائيٌّ ( ولِدتُ في الثاني عشر من نوفمبر عام 1960 ميلادية ) ، ومن المؤكد أنني ولدت ليلا ، لأنه صديقي ولا يمكن لي أن أتركه سهرانَ وحده ، فأنا أؤنسه وهو كذلك يملؤني بهجةً وأُنسًا وشفافيةً ، وبعد قضائي ثلاثة أشهر في أمريكا عام 91 ، درَّبت نفسي على الكتابة في أي وقتٍ ، حيث كانت منحتي أساسًا للكتابة الإبداعية The International Writing Program (IWP) and is the oldest and largest multicultural writing residency in the world ، وهي الرحلة التي غيَّرتني شاعرًا وإنسانًا ، ووضعتني في طريق آخر غير الذي كنتُ أسير فيه .
صرتُ أكتبُ في المطارات والطائرات والفنادق ، وصارت ساعات الترانزيت الأهم والأشفُّ والأغلى عندي ، وعمومًا ، عندما أخرج من مطار القاهرة أصير كائنًا شفيفًا ، أسقَطَ عن كاهله كل شيء ثقيلٍ ، وتتفرَّغ رُوحي للسؤال والكتابة ، كما أنني أحمل معي كُتبا مُهمة تُحفِّز على الكتابة ، وخلال أسفاري قرأتُ كتبًا لم أستطع قراءتها في القاهرة ، حيث انشغال الذات بأشياء كثيرة .
وهناك رحلات شعرية لم أكتب حرفًا فيها ، لكن هناك مدن مُوحية أحببتُها ، وكتبتُ فيها كثيرا ، مثل : لندن ، وبرمنجهام ، وإكستر ، وباريس ، وسان فرانسيسكو ، ونيويورك ، وميامي ، وعمَّان ، ودمشق ، وحلب ، واستنبول ، والرباط ، ومراكش ، وفاس ، وطنجة ، وتونس ، وسوسة ، وأبوظبي ، ومدن كثيرة في الهند ، وقرطبة ، ومدريد ، وغرناطة ، وجرانادا ” نيكاراجوا ” ، وسان خوسيه ” كوستاريكا ” ، وبوينس آيرس ، و… عشرات المدن التي بدأتُ السياحة فيها منذ عام 1987ميلادية ،
وهناك كُتب ولدت خارج القاهرة مثل ” الوصايا في عشق النساء ” الذي بدأته فكرةً ونصًّا في مدينة المنستير التونسية .
فالسفر ليس راحةً من تعبٍ أو بحثًا عن مُتع ، وإنما معرفة وقراءة وكتابة وسفر وسياحة في داخلي أولا ، قبل أن تكون سياحة في المكان الذي حللتُ فيه .
وعادةً في أسفاري لا أشغل نفسي بالعابر والتافه من الأمور ، لأنني أومن أن الحياة مهما طالت فهي قصيرةٌ للغاية ، وينبغي استغلالها الاستغلال الأمثل . والأهم عندي زيارة المتاحف وقاعات الفن التشكيلي ، لأن التشكيل مع الموسيقى مكونان أساسيان لروحي ومن ثم شِعري .
وطبعًا ما زلتُ في كثيرٍ من الكتابات أكتبها بالقلم الأسود على ورقٍ أبيضَ غير مسطورٍ ، لأن السُّطور تُربكني وتُشعرني أن أحدًا ملأها قبلي ، كما أراها سجنًا لروحي ، وعائقًا أمام دفقي ، وأنا أحبُّ أن أكون الأوَّل في الفضِّ والفيضِ والفتْح والدفْق ، ولذا دائمًا ما يمتلىءُ بيتي بالورق والأقلام السوداء على اختلاف أنواعها ( كان صديقي الحبيب الشاعر الراحل عمر نجم من أكثر شعراء الدنيا ولعًا بالأقلام السوداء ، وصاحب خطٍّ جميل مثلي ، وطبعًا صديقي الكبير الراحل جمال الغيطاني ) ، وأنا من الذين يحزنون كثيرًا إذا فقدوا قلمًا كتَبتُ به سطرًا واحدًا ، أمَّا إذا ضاع دُون أن أفتحه فلا يهمُّ ، حيث لم أرتبط معه بصداقةٍ حميمة .
وأنا – عادةً – ساعة الكتابة ألفُّ حولي نفسي ،قلقًا ومتوترًا ، لأنني أخشى مواجهة ذاتي وقت الكتابة ، وهذا الوقت أعتبره ذروة مساحة الصدق والدفق لدي شاعر الشعر ، وأجولُ في البيت الذي أعيش فيه وحدي ،كقطٍّ بلا أنيس ( أهديت ثمانية عشر قطًّا عام 2014 ميلادية ، لأنني أردتُ أن أكوِّن بيتًا ، أثاثه يعود إلى القرنين التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الميلاديين ) ، وأغلق الباب عليَّ ، مع أن لا أحد معي ، كأنني أتهرَّب من الكتابة التي هي صعبةٌ ومُستحيلةٌ وتحتاج إلى مُراودةٍ ، لكنَّها تعرفُ أنني وفيٌّ ومُخلصٌ لها ومُجتهدٌ ، والشِّعر كائنٌ حيٌّ يشعرُ بشاعرهِ ، ويدرك إن كان صاحبه صادقًا أو مُفتعلا ، ولمَّا يطمئن لشاعره يبدأ في منح نفسه ، وكل قصائدي التي درسها النقاد ، أو أعجبت غير العرب في ترجماتها ، هي التي كُتبتْ في دفقٍ واحدٍ ، وفيضٍ مدهشٍ ، وعمومًا أنا لا أكتبُ كثيرًا ، لكنني إذا ما بدأتُ عملا أعمل فيه كل يومٍ بلا انقطاعٍ ، وأحذفُ منه أكثر مما أضيف ، وأراني حذَّافًا أكثر مني كاتبًا ، إنها الكتابة بالحذف ، أو بالمَحو ، وآفة الشعر في كل الحضارات الثرثرة والزوائد التي ينبغي استئصالها ، والشرح ، ووضع ما لايلزم ، بل يُثقل النص ، والانصياع للتداعي الحُر ، دون معرفةٍ جيدة ببناء القصيدة .
حقيقة أنا أحبُّ القراءة أكثر من حبِّي للكتابة ، لأن في القراءة لذةً ومعرفةً وتحققًا ، كما أنني أخشى الكتابة رغم أنها تنامُ في سريري ، وما من ساعةٍ تمر إلا روادتُها ألفَ مرةٍ في الساعة ، وهي تسعد بالمُراودة ، لكنها تُمارسُ المُراوغة معي ، ثم تُقرِّر – هي – متى تأتي ، لكنني من الذين يسعون نحوها ‘ إذْ لا أومنُ كثيرًا بانتظار الوحي والإلهام ، لأنَّ على الشاعر أن يخلُق وحيه وإلهامه كل ثانيةٍ تمر عليه ، وفي حياتي تتوفَّر مصادرُ كثيرةٌ للوحي والإلهام من ضمنها من أحبُّ .
والكتابة لديَّ أعلى مرتبة من أي نشاطٍ إنسانيٍّ يمكن لي مُمارسته ، وإن كنتُ أعتبرُ الحبَّ شعرَ الحواس ، وأن المرأة القصيدة التامة التي لم يصل إليها أكثر الشعراء جُمُوحًا في البناء والخيال ، وأظنُّ لا يمكن معادلتها شعريًّا أبدا ، مهما أوتينا من مواهب ، ولذلك دائما ما أقول أن من يمارس العشق ، لايمكن له أن يكتب شعرا في اليوم نفسه ، لأنه روحيًّا قد كتب قصيدته الأعلى بحبر الحب .