لقد نالت اللغة العربية من العرب جُلَ اهتماماتهم ، وجندوا من أجل إجادتها ، وإتقانها ، ودراستها ، كل مواهبهم ، فأودعوها كل أسرار الجمال ، وقامت عندهم مقام كل ما عرف من فنون الجمال الأخرى .
لقد استطاع العرب أن يحملوا لغتهم العربية الجميلة كل ما تحمل الفنون الجميلة من ملهمات وأسرار .
فالموسيقى بألوانها ، وأنغامها ، ومقاماتها ، قد حواها الشعر العربي في تفاعيله ، وبحوره ، وقوافيه والتصوير قد تكفل به البيان العربي في براعة ودقة ، تجعل من الصور الكلامية صورة جلية واضحة مؤثرة .
والنحت قد تضمنته البلاغة العربية (بعيداً عن التعقيدات التي لحقت بها في العصور المتأخرة ) ، فأقامت من الكلمات أشكالاً ماثلة ، جميلة معبرة بكل أصباغها وألوانها .
والتمثيل له في الكلمة مكانة ومقامة ، فلقد كانت البلاغة العربية ، والبيان العربي بوجه عام ، مسرحاً حياً ، قامت فيه الكلمات والعبارات مكان الشخوص تحاور وتجادل وتناقش ، وتغدوا وتروح ، فإذا أنت منها بمشهد من مشاهد التمثيل لأعظم الروايات ، وعلى أعظم المسارح .
بين الموسيقى والجمال :
وهكذا ، فإننا نجد اللغة العربية قد احتوت الكثير من أسرار جمال الفنون ، ومظاهرها ، والذي عاون على ذلك هو طبيعة اللغة العربية ، بما فيها من موسيقى وجمال .
فهي اللغة الشاعرة ، أو لغة الوزن فعلاً أو سماعاً ، كما يقول أستاذنا / عباس محمود العقاد (رحمه الله ) ، والذي يستطرد في تأكيد هذا المعنى ، وتوضيحه ، بقوله : ولا جدال في أن الألفاظ العربية نفسها مخلوقة على أنماط موسيقية ، ولعل ذلك مما جعل أشعارنا أغنى أشعار الدنيا بالموسيقى ، وجعلها أكثر من غيرها قبولاً للترنيم والترديد والتلحين .
ومن أجل ذلك كانت الألفاظ نفسها في اللغة العربية كيانات موسيقية ، ولقد كانت هذه اللغة الشاعرة بفضل ما فيها من : اتساع وكثرة وطواعية وموسيقية ،أكبر عونا على نجاح فن الشعر (ديوان العرب وفنهم الأول ) ، وجعله أكثر فنون العرب شهرة ، وأكثر أشعار الأمم انتشاراً ، بما تضمنته من ألوان الجمال ، وأسرار المتعة .
حتى لقد كان الشعر هو الصورة النهائية للجمال عند العرب ، ولذا أودعوه أسراره كثير من الفنون الجميلة الأخرى ، وأولها الموسيقى التي حرص العرب على انسجامها في الشعر حرصاً شديداً ، ومن أجلها صنفوا علمي العروض والقافية (علم موسيقى الشعر) .
الموسيقى وغايات الشعر :
والحق يقال إن الموسيقى أدت أدواراً متعددة في خدمة أهداف وغايات الشعر كفن من الفنون الجميلة ، فقد أصبحت إيقاعات الألفاظ مادة أساسية في الرمز يعبر بها الشعراء عن خلجات أنفسهم تعبيراً يقصد به إلى الإيماء بنفس الرنين والنغم .
وكأنهم يريدون أن تكون موسيقى الشعر ، موسيقى تعبيرية (تصويرية ) تنقل أحوالهم الوجدانية ، وخواطرهم النفسية نقلاً موجزاً ، وكأنهم قد عرفوا معرفة تامة مدى تأثير النغم الجميل في السامع ، فهم يوقرونه في حرص شديد .
وكأننا لا نستمع إلى ألفاظ فحسب ، وإنما نستمع أيضاً إلى موسيقى ينتظم فيها الإيقاع إلى أقصى حد ممكن.
الصقل عن طريق الغناء :
ولم يقتصر أجدادنا على تضمين شعرهم فن الموسيقى ، وإتقانها فيه إلى هذه الدرجة الرائعة بل تغنوا به ، وصقلوه عن طريق الغناء ، حتى صار فناً غنائياً .
ولا غرابة في ذلك فإن الموسيقى من مقدمات الغناء ودواعيه في التغني بالشعر إتماماً للمتعة الفنية ، وتتميماً للوحدة الجمالية فيه .
ولذلك نجد الشاعر المخضرم / حسان بن ثابت (رضي الله عنه ) يوصي الشعراء بالتغني بالشعر ، لأن الغناء يصقله ، ويجوده .
يقول حسان :
تغن بالشعر ! ما كنت قائله
إن الغناء لهذا الشعر مضمار .
الغناء والقيم الجمالية :
وعن طريق الغناء ضمن الشعراء لشعرهم كثيراً من القيم الجمالية الغنية التأثير ، وأشربوه ماء السحر أو فلنقل ماء الفن الجميل المؤثر ، وغذوه روح الجمال ، وبذلك ثقف العرب شعرهم بالغناء ، وأقاموه على أصول موسيقية ، فكان من نتيجة ذلك أن صار من بين الفنون الجميلة .
ندرك ذلك جيداً عندما نشدوا أو نتغنى بقول الشاعر الفارس / أبي فراس الحمداني ، وهو في الأسر يناجي حمامة ، فيقول :
أقول وقد ناحت بقربي حمامة
أيا جارتاً لو تعلمين بحالــي
معاذ الهوى ما ذقت طارقة النوى
ولا خطرت منك الهموم ببـال
أيا جارتاً ما أنصف الدهر بيننا
تعالي أقاسمك الهموم تعالــي
تعالي تري روحاً لدي ضعيفة
تردد في جسم يعذب بالـــي
أيضحك مأسور وتبكي طليقة
ويسكت محزون ويندب سال؟ !
لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة
ولكن دمعي في الحوادث غال.
وبعد ذلك ، أظنك معي ـ أيها القارئ المفضال ـ في أن هذا الشعر رق حتى ليكاد يذهل الإنسان عن نفسه فلا يتنبه إلا وهو يضرب على هذا الوتر الحنون الذي يعزف عليه الشاعر الفارس / أبو فراس الحمداني ، بنغمة الحزين .
الأحاسيس والمشاعر :
ولا تقل قدرة الشعر العربي على التصوير ، عن قدرته الموسيقية أو الغنائية ، حتى لنجد فيه المرآة الصافية الصادقة التي تبرز الأحاسيس ، وتعكس بجلاء المشاعر مهما دقت ورقت ، نحد ذلك عندما نقرأ هذه اللقطة الفنية للشاعر السوري اللبناني/ خليل مردم عن طفل وأمه ، يقول فيها :
هش لما حملته أمه
ودنا من وجهها بالراحتيـــن
جاز ما بينهما شوقهما
قبلة تجزيه عنها قبلتيـــــن
من رأى عيسى يناجي مريماً
أو رأى الزهراء يناغيها الحسين
وإذا ما عبثت في وجهه
عبثاً أو دفعته باليديــــــن
جمع الأنف وضم الشفتين
وذوى اللحظ وهز المنكبيـــن
وبدا الغيظ ولو دافعه
والحيا في وجهه ممتزجيـــن
لج بي فرط حناني فأنا
من بكاءٍ وابتسام بين بيــــن
بسمة حيرى أطافت بفمي
حين حارت دمعتي بالمقلتين .
ولا يخالجني أدنى شك ـ عزيزي القارئ ـ في أنك ترى معي أن هذه الصورة تعد لوحة فنية رائعة الجمال ، زاهية الألوان ، بارزة الملامح والقسمات ، واضحة الحيوية ، وزعت فيها التقاسيم بدقة ، وركز فيها الشاعر على الحركة بطريقة جعلت القصيدة تكاد تكون صورة مجسمة ، وتكاد الملامح فيها أن تنطق بما شع فيها من إحساس .
وقد بلغت الحبكة الفنية ذروتها ، عندما وجدنا الشاعر يفاجئنا بظهوره في الصورة ، وقد استبد به فرط الحنان ،
واختلطت أحاسيسه ، فبينما ندت منه دمعة الإشفاق حارت على شفتيه بسمة السرور والسعادة .
وإن كان الشاعر / خليل مردم قد استبد به فرط الإشفاق والحنان لمداعبة الطفل وأمه ، فلقد استبد بنا فرط الإعجاب بهذه الأبيات فلا ندري أهي لوحة مصورة أم هي صورة شعرية ؟ ! .
عندما يقاسم الشعر الفنون ميزاتها :
الشعر العربي في تاريخه الطويل قاسم كثيراً من الفنون الجميلة ميزاتها ، بل أننا كثيراً ما نجدها مجتمعة في قصائده ، فبعضها قد نال من الموسيقى سحرها وأنغامها ، ومن الغناء شدوه وتطريبه ، ومن الرقص إيقاعه وتوقيعاته ، ومن التصوير وضوحه وجماله ، ومن الرسم نبضه وأحاسيسه … أجل ، لقد أخذ الشعر من الموسيقى ألحانها العذبة المؤثرة ، ومن الغناء سحره ، ومن الرقص إيقاعه ، والشواهد على ذلك في شعرنا العربي أكثر مما تعد وتحصى .
قيمة الشعر في الجوانب التهذيبية :
غني عن البيان أن الشعر قد تفوق على الفنون الجميلة في جانب جمالي آخر على درجة كبيرة من الخطورة والأهمية ، ونعني بذلك الجانب التهذيبي ، الذي يعد غاية الغايات للفنون الجميلة كلها ، مع كل الاحترام والتقدير للذين ينادون بمبدأ الفن للفن أو الحرية دون حدود للفن.
في هذا الجانب الأخلاقي أو التهذيبي ، فإن الشعر العربي بلغ الذروة ، ونال كل الإعجاب ، فما جاء فيه من حكم ، وأمثال ، وأخلاق ، ونظرات صائبة ، وفلسفة ، ودعوات إلى الأخلاق الفاضلة والقيم الحميدة الصالحة ، يفوق كل تصور .
بل إن الشعر العربي يجعل بناء الروح غاية من أجل غاياته ، فغاية الأدب كغاية الفنون الجميلة الأخرى ، وهو يشاركها فيما لها من آثار تربوية وتثقيفية وتهذيبية ، تعاون على ترقية الحياة والنهوض بها ، وإزالة جفوتها ، وتهوين مشاقها ، والكشف عن أسرار جمالها الحقيقية ، بل هو في هذا المجال يكاد يسبق الفنون الجميلة كلها ، وينفرد عنها بالثراء والوضوح .
فلنقرأ معاً قول أبي الطيب المتنبي (شاعر العربية الأكبر) :
ومراد النفوس أصغر من أن
تتعادى فيه ، وأن تتفانى
غير أن الفتى يلاقي المنايا
كالحات ولا يلاقي الهوانا
نجده يثير في أنفسنا عاطفتي العزة والكرامة والتشبث بهما ، ولكنه يأخذ بفكرنا إلى مجال فلسفي عميق ، فيقرر أن مقالب النفوس من الطعام والشراب واللباس لا تستدعي على وجه الإطلاق هذا التطاحن العنيف ، والتعادي الحاد ، وإذن فلماذا كل هذا الصدام والتناحر ؟! ، إنه لغاية أخرى هي الكرامة والحرية .
تحصيل المعاني الوجدانية :
ومن هنا ندرك أن الشعر مع مشاركته لغيره من الفنون الجميلة الأخرى في جمال التصوير ، وقوة التأثير ، فإنه يحتفظ لنفسه بميزات لا توجد في غيره من بقية الفنون .
ومن تلك الميزات أن الأديب المطبوع يستطيع بلطف تأليفه أن يريك من الحروف والكلمات شمائل الأشياء ، وصور الكائنات ، ويتجاوز في ذلك إلى تحصيل المعاني الوجدانية التي قلما تنالها تهاويل النقش ، وأصباغ التصوير .
وكأن الأدب من هذه الناحية أرقى طبقات الفنون ، وأكرمها أثراً في النفس ، وهو بلا سبب نفحة إلهية فطرية متصلة بمشاعر النفوس ، وقوة الخيال .
مقياس جمال القول :
والذي نرمي أن نصل إليه هو أن الشعر بخصوصه ، والأدب العربي بعمومه ، يتمتع بكثير من القيم الجمالية ، التي كانت موضوعاً للعمل الأدبي البليغ ، وهدفاً من أهدافه ، وحيثما وجدت البلاغة ازدهر نجم الجمال ، ومن هنا فإن الأدب البليغ ، أو الأدب الناجح هو ذلك الأدب الذي يؤثر في النفوس بجماله وروعته .
ومقياس قوة التأثير من أدق المقاييس التي يجب أن يأخذها النقد الأدبي في الحسبان ، وذلك من أجل معرفة جمال القول وبلاغته .
وإذا ما عرضنا نماذج من الأدب العربي على هذا المقياس ، فإننا سندرك مدى بلاغته وجماله .
ولا ننس في هذا المقام ما شهد به الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم ) لقوة تأثير الأدب الجميل ، في قوله (صلى الله عليه وسلم) : “إن من البيان لسحراً ، وإن من الشعر لحكمة ” .
والعرب أنفسهم قد أدركوا جمال القرآن الكريم بمعانيه وحلاوته وطلاوته ، وقوة تأثيره ، وشهدوا له بأنه يعلو ، ولا يعلى عليه .
ولقوة تأثير الشعر عدوه من خير صناعاتهم وأنفعها على حدد تعبير الفاروق / عمر بن الخطاب (رضي الله عنه ) ، في قوله : “خير صناعات العرب أبيات يقدمها الرجل بين يدي حاجته يستميل بها الكريم ، ويستعطف بها اللئيم ”
فمن غايات الشعر الذي هو في الأساس تعبير عن المشاعر والأحاسيس ، وعكس الواقع المعاش ، من غاياته هنا الاستمالة والاستعطاف .
الشعر والأماني الغالية :
ولمعرفة العرب بجمال القول وتأثيره في النفوس ، اعتبروا الشعر متعة ، بل وتحية للضيف ، فيقول قائلهم :
لحافي لحاف الضيف ، والبيت بيته
ولم يلهني عنه غزال مقنع
أحدثه إن الحديث من القِرى
وتعلم نفسي أنه سوف يهجع
وجمال القول يبلغ منتهاه عندما يكون أحد الأماني الغالية التي يسعى المرء أو يعيش من أجلها .
يقول الفاروق / عمر بن الخطاب (رضي الله عنه ) : “لولا أن أسير في سبيل الله ، وأن أضع جبهتي له ، وأن أجالس أقواماً ينتقون أطايب الحديث ، كما ينتقون أطايب الثمر ، لم أبال أنني قدمت .”
فالفاروق / عمر بن الخطاب يرفع من شأن أطايب الحديث والكلم ، حتى أنه يجعلها مع الجهاد في سبيل الله تعالى ، والسجود له ، في نسق واحد .
ولعل ذلك يؤكد لنا مدى معرفة أهل العربية بلغتهم الجميلة ، إدراكهم الواعي لقيمة الكلمة ودورها في التربية والتهذيب والتعليم ، ودورها في البناء والتنمية ، ونهج الطريق المستقيم .
إسلام عمر بن الخطاب والجمال الأدبي :
ومن أوضح الدلائل على صدق تأثير الجمال الأدبي قصة إسلام الخليفة الراشد / عمر بن الخطاب (رضي الله عنه ) ، الذي كان يعرف في الجاهلية بالجبار ، الذي خر باكياً أمام روعة القرآن الكريم ، وقوة تأثيره .
فقيل أنه لما سمع القرآن من الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم ) رق له قلبه ، فبكى ، ودخل الإسلام راضياً مرضياً .
ويؤكد أستاذنا / عباس محمود العقاد في كتابه (عبقرية عمر) ، على أن : بلاغة القرآن الكريم ، هي التي مالت بعمر إلى الرحمة والإيمان .
مثال آخر : إسلام “الطفيل بن عمرو” :
وما قصة إسلام سيد بني دوس (الطفيل بن عمرو) عنا ببعيدة ، فقد رووا أن سادة قريش عندما علموا بقدومه ، وكان شاعراً نبيلاً نبيهاً ، قرروا أن يستقبلوه قبل أن يدخل إلى مكة حتى يحولوا بينه وبين سماع القرآن الكريم من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خوفاً من أن يسلم ، فتسلم معه قبيلته ، فأسرعوا إليه ، وقالوا له : يا طفيل إنك قدمت بلادنا ، وهذا الرجل (يقصدون محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم) قد فرق بين جماعاتنا وشتت أمرنا ، وإنما قوله كالسحر ، يفرق بين الرجل وبين أبيه ، وأخيه وزوجته .
وأضافوا قائلين : وإننا نخشى عليك وعلى قومك … ثم مازالوا به حتى أقنعوه ، وقد أجمع أمره ألا يكلم محمدا ، ولا يسمع منه ، ومضى إلى الكعبة ، وقد حشا أذنيه قطناً حتى لا يبلغه صوت الداعي إلى الإسلام .
لكنه ما كاد يرى المصطفى (صلى الله عليه وسلم ) يصلي عند الكعبة حتى اقترب منه ، فنفذت إلى سمعه كلمات من القرآن الكريم .
فقال طفيل : والله إني لرجل لبيب شاعر ، ما يخفى علي القول ، فما يمنعني من أن أسمع من هذا الرجل ما يقول ، فإن كان حسناً قبلته ، وإن كان قبيحاً تركته .
ثم ذهب طفيل إلى بيت الرسول (صلى الله عليه وسلم) وقص عليه قصته ، فعرض عليه رسول الله أمره ، وتلى عليه من القرآن الكريم ما تيسر له ، فما كان من الطفيل بن عمرو إلا أن خشع وأسلم ، وما كان إسلامه إلا لروعة القرآن الكريم ، وصدق جماله ، وقوة تأثيره .
عندما يهز الشعر النفوس الكريمة :
ويروي الجاحظ في كتابه الموسوعي (البيان والتبين) كثيراً من هذه الأمثلة التي هز فيها الشعر النفوس الكريمة ، كهذا الشعر الذي قالته قتيلة بنت النضر بن الحارث ، حين عرضت لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وهو يطوف بالبيت الحرام ، واستوقفته ، وجذبته من ردائه ، وأنشدته شعرها بعد مقتل أبيها ، فلما سمع قولها : ـ
أيا راكباً الأثيل مظنة
من صبح خامسه وأنت موفق
أبلغ به ميتاً بأن نحبه
ما إن تزال بها الركائب تخفق
مني إليه وعبرة سفوحه
جادت لمانحها وأخرى تحقق
هل يسمعن النضر إن ناديته ؟
أم كيف يسمع ميت لا ينطق ؟
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه
لله أرحام هناك تشفق
قسراً يقاد إلى المنية متعباً
رسف المفتد وهو عان موثق
أمحمد ها أنت نجل نجيبه
من قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضيرك لو مننت فربما
من الفتى وهو المغيظ المُحنق
أو كنت قابل فدية فلتأتين
بأعز ما يغلو لديك وينفق
والنضر أقرب من قتلت وسيلة
وأحقهم إن كان عتق يعتق
فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) : لو كنت سمعت شعرها هذا ما قتلته .
والحجاج يتأثر هو الآخر :
وهذا هو الحجاج بن يوسف الثقفي ، الذراع الحديدية لبني أُمية ، وقد ضرب أعناق أسرى ، فلما قدموا إليه رجلا ليضرب عنقه ، قال الرجل : والله لئن كنا أسأنا الذنب فما أحسنت العفو ! ، فقال الحجاج : أُف لهذا الجيف أما كان منها أحد يحسن أن يقول مثل هذا ، ويمسك عن العقل ؟ ـ ويقال أن الحجاج قد عفا عن الرجل ومن معه .
تأثير القول البليغ :
وهذا هو تأثير القول البليغ في نفوس العرب الخلص نراه قد عظم حتى رفع الحواجز ، وأزال الضغائن ، وأنسى الأحقاد ، وجلا عن القلوب صدأ الكفر والعنجهية والغرور والتعالي ، وغسل من الصدور أدران الحقد ، ومسح من النفوس سخائم الغل والغدر والكراهية ، نعم ، إنه السحر الساحر الجمال ، أدركه العربي في كل شيء ، ولم يتوقف به عند الجمال الحسي الذي شغل به في أول الأمر ، بل ترقى في نظرهم حتى أدركوا في الطبيعة ، وأدركوه في المرأة التي كنوا لها كل التقدير والاحترام ، وأدركوه في فن الغزل .
شاعرة تصور مأساتها :
واستمرارا لبعض النماذج والأمثلة التي نذكرها لك ، نقول : لقد كان بين القبائل في العصر الجاهلي تنافس وصراع ، وكانت الحياة عندهم سلسلة لا تكاد تنقطع من الغارات والمعارك ، وقد سجل التاريخ الجاهلي معارك مشهورة سميت (أيام العرب) .
والأبيات التي سوف تطالعها بعد قليل تصور لك إحدى هذه المعارك ، وتنفرد بتصوير مأساة مما كانت تنجلي عنه .
ها هي جليلة بنت مرة بن ذهل من شيبان ، والذي ينتهي نسبها إلى قبيلة بكر ، وقد تزوجت من وائل بن ربيعة ، المعروف بكليب ، وكان كليب قد بلغ درجة كبيرة من الغنى ، والقوة ، والكبرياء ؛ حتى لقد منع أن ترعى إبل غيره في أرض له ، أو أن تشرب من الماء الذي ترده إبله ، وحدث أن مرت هذه الإبل وهي في الطريق إلى الماء بناقة البسوس بنت منقذ التميمية ، ورآها كليب فغضب ورماها بسهم فقتلها .
ثارت ثائرة البسوس ، وغضب لغضبها جساس ابن أختها ، وأخو جليلة بنت مرة ، فتحين فرصة من كليب ، فقتله ، ونشبت بذلك بين بكر وتغلب حرب ظلت فيما يقول الرواة أربعين سنة ، وسميت (حرب البسوس) .
ولما اجتمع نساء الحي في مأتم كليب ـ وفيهن جليلة زوجة القتيل وأخت القاتل ـ رأت أخت كليب في بقاء جليلة بينهن شماتة وعار ، فقالت لها : يا هذه ، اخرجي عن مأتمنا ، فأنت أخت واترنا (الذي قتل قتيلاً منا) ، فخرجت حزينة مهمومة ، ويقال أن جليلة تقوض بيتها وسيادتها ، وراحت تتنقل مع قومها من بكر مدة حربهم مع تغلب ، وتوفيت سنة 538 م ، ولنقرأ معًا أبيات جليلة بنت مرة الشاعرة التي تصور مأساتها :
يابنة الأقوام إن شئتِ فـلا
تعجلي باللوم حتى تسألي
فإذا أنت تبينت الــــذي
يوجب اللوم فلومي واعذلي
إن تكن أخت امرئ ليست على
شفق منها عليه ففـــعلي
جل عندي فعل جساس فيــنا
حسرتي عما انجلت أو تنجلي
فعل جساس على وجدي به
قاطع ظهري ، ومدن أجلي
ياقتيلاً قوض الدهر بــه
سقف بيتي جميعًا من عـل
هدم البيت الذي استحدثته
وانثنى في هدم بيتـي الأول
يا نسائي دونكن اليـوم قد
خصني الدهر برزء معضـل
خصني قتل كليب بلـظى
من ورائي ولظى مســـتقبل
يشتفي المدرك بالثأر وفي
درك ثأري ثكل المثــــكل
إنني قاتلة مقتولـــــة
ولعل الله أن يرتاح لــــي
ولعل القارئ الكريم يلاحظ في هذه الأبيات التي قالتها جليلة بنت مرة أنها تستخدم لغة عربية فصيحة وواضحة في نفس الوقت ، ولا نبالغ إذا قلنا أنها تشبه لغتنا العربية المعاصرة ، وما أقربها إلى الخطاب الأنثوي البليغ ، لكل ما فيه من تأثر وعاطفة متحرقة على أخ لها في مأزق شديد ، وحيرتها البالغة بين أخيها القاتل وزوجها القتيل .
ولهذه القصيدة منزلة خاصة لدى الأدباء ونقاد الأدب ، فهي قصيدة تعبر تعبيرًا حيًا صادقًا عن عواطف امرأة وجدت نفسها فجأة ضحية لنكبة من نكبات التهور والطيش ، قضت عليها وعلى آمالها ، وأدت إلى دمار قبيلتين يربط بينهما رباط القربى والصهر ، كما نلاحظ أن أفكارها مترابطة ، تسلم فيها الفكرة إلى الفكرة ، وكلها في موضوع واحد ، كما نجحت جليلة في توضيح موقفها من الجريمة البشعة التي ارتكبها أخوها ، وفي تصوير رابطة الأخوة التي لم تستطع مقاومتها ، يضاف إلى ذلك أن صورها معبرة ، والجميل فيها أنها وإن لم تلجأ إلى الخيال كثيرًا فقد أجادت في تصوير الواقع ، ثم تأتي ألفاظها الحلوة السهلة ، المعبرة عن روح المرأة ومشاعرها.
دعوة إلى السلام :
من القصائد الخالدة التي ذاعت في العصر الجاهلي ، وعرفت باسم المعلقات ، معلقة زهير بن أبي سُلمى المزني ، والتي بدأها بقوله :
أمن أم أوفى دمنة لم تكــلم
بحومانة الدراج فالمتثـلم ؟
وقد قالها زهير في مدح رجلين من سادات العرب ، هما : هرم بن سنان ، والحارث بن عوف ، اللذان قاما بالصلح بين قبيلتي : عبس وذبيان ، بعد حرب داحس والغراء التي استمرت بينهما زمنًا طويلاً ، وخلفت وراءها كثيرًا من صور البؤس واليتم والدمار .
وسبب هذه الحرب : أن قيسا بن زهير سيد بني عبس كان له جواد اسمه (داحس) ، وأن حمل بن بدر من ذبيان كانت له فرس تسمى (الغبراء) ، وكان من عادة العرب في الجاهلية أنهم يعقدون للسباق حلقات يتراهنون فيها على الخيول الكريمة ، وحدث أن تراهن قيس بن زهير ، وحمل بن بدر على داحس والغبراء ، وجاء وقت السباق ، وخاف حمل أن يسبق داحس فرسه ، فلجأ إلى حيلة دبرها مع بعض فتيان قومه ، إذ أمرهم أن يكمنوا في طريق داحس ، ويضربوا وجهه إذا جاء سابقًا ، وفعل الفتيان ما أمروا به ، فسبقت الغبراء ، وشاع الخبر ، وانكشفت الحيلة ، وعرفها قيس بن زهير ، فغضب وغضبت لها عبس كلها ، واتسعت هوة الخلاف بين القبيلتين حتى انتهت إلى هذه الحرب الطاحنة التي ظلت ـ فيما يقال ـ أربعن عامًا ، حتى تقدم
هذان الرجلان ، وهما من قبيلة ذبيان فأصلحا بين القبيلتين ، واحتملا ديات القتلى ، وقد بلغت ثلاثة آلاف بعير .
وكان ذلك منهما صنعًا كريمًا ، هز زهير بن أبى سُلمى شاعر الحكمة والسلام ، فأنشأ فيهما معلقته التي نسوق لك فيما يلي بعض أبياتها .
يقول زهير بن أبي سلمى :
فلا تكتمن الله ما في نفوســـكم
ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخــر
ليوم الحساب أو يعجل فينقم
وأعلم ما في اليوم والأمس قبلــه
ولكن عن علم ما في غد عم
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم
ومن لم يصانع في أمور كثيـــرة
يضرس أنياب ويوطأ بمنسـم
ومن يحمل المعروف من دون عرضه
يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضـــله
على قومه يستغن عنه ويذمم
ومن هاب أسباب المنايا ينلنــــه
وإن يرق أسباب السماء بسلم
ومن يجعل المعروف في غير أهلـه
يكن حمده ذمًا عليه وينـــدم
ومهما تكن عند امرئ من خليقــة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
ولعلنا قد لاحظنا في هذه الأبيات ما امتاز به زهير من عقل ، وحكمة ، وحب للسلام ، ونزعة للتدين ، وما اشتهر به من ضرب الأمثال ، ونقد المجتمع والتعريف بشيء من أحواله ، كما نلاحظ معاني زهير الكريمة الواضحة البعيدة عن الإسفاف ، والتي لا غموض فيها ولا إبهام .
كما يمكننا أن نعرف بعض ما تميز به أسلوب زهير من خصائص مثل جزالة اللفظ ، ومتانة التركيب ، مع نقاء العبارة ، وبعدها عن التعقيد والإغراب ، كما نجد أخيلة الشاعر منتزعة من البيئة الجاهلية ، شديدة الاتصال بها ، والصور ناطقة بالحياة ، نابضة بالحركة ، يكاد القارئ يرى ما فيها ماثلاً أمامه
أسرار الجمال في الأدب :
وكثيراً من النقاد الذين بحثوا عن أسرار الجمال في الأدب العربي يعزونها إلى معانيه الجميلة ، وما فيه من عواطف نبيلة ، وعزاها آخرون إلى موسيقاه ، وحسن التصوير فيه ، مما جعله يحظى بمزايا كثير من هذه الفنون الجميلة المعبرة ، فهذه الفنون هي لغة الإنسانية ، وهي تقاس بمقدار ما اجتمع لها من أسباب الحُسن ، وبمدى قدرتها على التأثير في الناس ، وما تثيره في نفوسهم من إحساس باللذة أو الألم أو الرضا أو السخط ، فالألحان الموسيقية والقطع الفنية والرسوم يحس ما فيها من حسن وجمال ، كل إنسان سوي كامل الحواس ، قادر على التذوق .
ومثلها : الشعر جماله في قدرته على إثارة انفعال قارئه ، والأدب دائماً يملك القدرة على إحداث نفس التأثير الذي تحدثه سائر الفنون الجميلة في النفوس الطيبة ، والذي لا يجوز أن ننساه أن الأدب فن جميل ، وأنه إذا فقد الجمال جاز لنا أن نسميه شيئاً آخر غير الأدب .
خاتمة :
ونخلص من سطورنا السالفة إلى أن الأدب باتفاق النقاد وأهل البحث الأدبي فن جميل , بل ويمتاز على الفنون الجميلة الأخرى بالوضوح ، وجمعه بين كثير من مزاياها .
لذلك شغل به أهله عن غيره من كثير من العلوم والفنون الأخرى ، ومن بينها النظر المبكر قي الفلسفات الجمالية ، واكتفى العرب بالتعبير عنه بطريقتهم المفضلة التي يحبونها ويتقنونها ، ويحسنونها ، وهي اللغة الأدبية .