منوعات

أشرف عبدالشافى يكتب:  قبرا .. يحيى حقى ومحمد أبو الغيط

وأنا من هذا النوع الرومانتيكى الذى لا يبكى أحياناً ، ويستعصى عليه الدمع أياماً!، ومن يومها وأنا صامت هكذا ، لا أجد ما أكتب ، وما تفيد الكتابة أصلاً!، قضيتُ أياما محاصراً : هذا قبر يحيى حقى ،وهذا قبر محمد أبو الغيط ، وهذا حزنى بينهما .

“.. شكرًا لكل من قال كلمة في حق مقبرة والدي الأستاذ يحيي حقي، شكرًا لكل من حاول المساعدة.. وشكراً للمساعي الطيبة.. شكراً للقلوب التي شعرت بنبض القلب..سيتم هدم المقبرة ونقلها إلى العاشر من رمضان”.

هكذا قالت نهى يحيى حقى وتناقل الأصدقاء الخبر الموجع ،بينما أُودع محمد أبو الغيط فى صمت المتأمل ،وخشوع العبد الحامد لمولاه على الرحمة التى تحفنا بها الملائكة ، أى عذاب احتملت روحك يا ولدى!، كنتُ أتابع كتابات الموت التى يعتصر فيها روحه وتسيل منى الدموع واستطعم ملحها مبتهجاً بالكتابة البديعة ،قرأتُ عن الألم، وقرأتم بلاشك ، اعتصرت الكاتبة نعمات البحيرى قلبى وأنا أقرأ تجربتها فى يومياتها المريرة التى كتبتها تحت وطأة السرطان والإشعاع وجرعات الكيماوى ،قرأتُ كتاب الألم وغربة موت جمال الغيطانى فى مستشفيات لندن الباردة مع رفيقته الراحلة ماجدة الجندى ، قرأت تجربة ممتعة وبديعة فى الألم كتبها عزت القمحاوى بعنوان “غرفة ترى النيل ” عن صديق له عاش معه تجربة السرطان ،قرأت ابتسامات الشاعر أسامة الدناصورى وهو يتجرع الألم ساخراً ومشيعاً للأحلام والآمال ،قرأت وسمعت صرخات فهمى فى لغة الآأى ليوسف إدريس ، قرأت وعشت وأعيش تجارب الألم بشكل يومى ، لكننى لم أتابع قطع من الألم اللذيذ والموجع يقتطعها كاتبها من جسده كل ليلة كى يظل الألم خالداً وعذبا وشجياً ومحفزاً على الحياة ،هذا ما فعل أبو الغيط فى تجربة هى الأقصر ، لكنها الأعمق والأبقى أثراً ، ليس فقط لأن كاتبها كان ينحتها من قلبه كل ليلة حتى اكتملت فصولاً مع صعود روحه ، ولكن لأن صاحبها لم يكن يريد سوى تخليد هذا الألم ، هى تجربته الأدبية التى نزلت مع نشع الدماء لأول مرة من جسده ، كل نقطة اختنقت فى المثانة واعتصرت روحه قبل سقوطه سجلّ لحظة سقوطها ، كل صرخة تنتاب الروح طوال الليل يترجمها فى الصباح كاتب سلس العبارة هادىء الروح متصالحاً مع الوجع كأنما يعيد اكتشاف اللغة وبريقها ونورها الذى يأخذه إلى الخلود ويجدد أمل البقاء :

” لماذا أكتب؟، أكتب لأن الكتابة هي أثري في الحياة، هي أهراماتي الخاصة، فإلى متى ستبقى منتصبة من بعدي؟

الكتابة هي محاولتي لمغالبة الزمن والموت بأن يبقى اسمي أطول من عدد سنوات حياتي التافهة مقارنة بعمر الكون الشاسع المقدر حاليا بـ 14 مليار سنة.

أعرف أني مهما عشت فإن حياتي، والعالم كله، كذرة غبار لا تُرى على شاطئ ذلك الكون الفسيح. لكن الكتابة قد تجعل ذرتي ألمع بين باقي الذرات على الأقل.

هذه صيحتي: محمد أبو الغيط مرَّ من هنا! “

أقرأ وأجهش ببكاء ربما ، لكننى أنظر إلى نفسى فأجدنى فى نعيم من الرحمة وظلال من الأمان مهما كانت منغصات الحياة وعذاباتها :

” قال الطبيب إن حالتي في يومها الثامن لا تبدى أى استجابة لمحاولاتنا، بما فى ذلك تناولي سائل “جاسترو جرافين” قبلها بثلاثة أيام، وهو ذو أثر بالغ الحدة في تحريك الأمعاء وتوليد الإسهال، لكنه لم يسفر معي إلا عن نوبة قيء رهيبة. انهال السائل مختلطاً بعصارة صفراء حامضية من أنفي وفمي وفهمت تعبير “كادت روحي تخرج معه”.

هذا الولد تعذب كثيراً ، لكنه لم يكتب لنا العذاب فقط ، كان يتجول فى حياته كمفكر أحياناً وفيلسوف فى أحيان آخرى وطفل صغير فى كل الأوقات : “.. ومازالت أمي حالمة مثالية، تهرب من الأحاديث العلمية الكئيبة إلى نثر التفاؤل وإيجاد إيجابيات …. تسألني: هل تذكر الأغنية التي كنت أغنيها لك؟ أقول أني نسيت، فتذكرني: أغنية “إلهي يحرسك من العين وتكبر ليا يا محمد” من غناء فايزة أحمد. ما أجمل أن أسمعها منها كبيراً بينما أضع رأسي على حجرها ليختفي الزمان والمكان وأعود ولو للحظات طفلكِ يا أمي، ولا تعريف آخر لي”.

يتأمل أبو الغيط علاقاته بعائلته تلك التى ابتعد عنها وأبتعدت عنه واجتمعوا فى حفلة الألم وعلى شرف الحزن : ” الآن أتسائل: من أنتم حقاً يا أبي وأمي، ويا شقيقي ويا شقيقتي؟ تركت أخي وأختي مراهقين، ثم هم اليوم فجأة طبيبة أورام ومهندس برمجيات ملء السمع والبصر..”.

يعيد أبو الغيط تأمل زوجته الجميلة ، يقرأ علاقتهما وقد تطورت حتى لحظة النهاية: ” ..لكم تغيرت إسراء! هل هذه ذاتها تلك الفتاة الهشة المترددة التي عرفتها؟ كنت أناديها “يا وردتي البيضاء”. هكذا كنت أراها، بتلات وردة رقيقة أخاف أن أتنفس قربها كي لا تتناثر، أو بلورات زجاج شفيفة لا تكاد تُرى”.

يطرح تساؤلات عن معنى الحب ويجده عند ابن حزم : ” نعم، أحبها، لأني أصبحت أجد عيني تتأمل بانبهار كل تفصيله في ملامحها، كل شعرة رمش، وكل مسام في الجلد. أحب شكل أسنانها حين تبتسم، وحركة عينيها حين تمزح. لا عجب أن كانت أول علامات الحب عند ابن حزم هي “إدمان النظر”.

تعذب هذا الولد وترك لنا قطعة نادرة من أدب الألم ، كنت أقول لنفسى ، بينما جاء الخبر مكتملاً ومؤكداً وقالت نهى يحيى حقى :” سيتم هدم المقبرة ونقلها إلى العاشر من رمضان، فأنت في جبين الزمان واحداً من عطر الثقافة والفكر والأدب والفن كله، وقنديلك مضيئا في أفق تراث وطنك مصرنا الغالي، وتمنياتي لمن يقرأ سطوري هذه بقراءة الفاتحة في ذكراه الثلاثين في يوم ٩ ديسمبر»..

صعدت روح أبو الغيط كما تمنى ، استراح من رائحة القىء ومن تهالك الأجهزة التى خذلته وكسرت الأمل ، فهو طبيب ، يعرف كل مادة تدخل جسده ، يعرف كمية الألم التالى لكنه فجأة وجد آلاماً لم تقلها الكتب ولم تذكرها المراجع :
“.. أمضيت ليلة بالغة السوء، خلالها صحوت قرب الفجر لأدخل في نوبة قيء حادة رغم عدم تناولي أي طعام وشراب. كنت أتقيأ عصارة معوية مريرة، مختلطاً بها قليل من بقايا الطعام، ميزت فيها على سبيل المثال سمسم من بقايا “بقسماط” تناولته قبل أسبوع..”.

عاش كل هذا الألم ، ودفن غريبا كأنما الأسطورة تكتمل ليصبح لدينا كاتب مصرى عاش الحنين إلى ترابها وكتب يحلم بتوقيع كتابه على أرضها، ويوم أن صعد الفتى كانت نهى يحيى تُدمى القلب وتحطم آخر ما تبقى لدّى من قدرة على احتمال كل هذا الهوان !،كنت كمن استيقظ فاقداً عقله ، يحيى حقى يا ناس !!.. يحيى الطيب القصير كقطعة حرير أبيض ملفوفة بالخير والمحبة، يحيى يا مصر ، يحيى اللى لف شوارعك وحواريكى يشترى الجرجير والمخلل والجبن من شوارع السيدة زينب وهو السفير المرموق، يحيى اللى قال لنجيب محفوظ إنت ثروة مصر ولازم أحافظ عليك وحافظ لنا كلنا على النجيب ، يحيى اللى راح فرنسا يدور على علاج جديد للعقل وللعين التى تضع الزيت فى حدقتها ، يحيى الذى أراد لنا جميعا أن نحيا فى سلام وعاش للمحبة ، يحيى اللى قدم القصة القصيرة المصرية للعالم كله وبشر بفجر القصة ، ، هان علينا وهانت علينا أنفسنا بالطبع ، نحن مجموعة من الفراغ ، لا نستطيع حماية أى شىء ولا نمتلك قوة الحق الثقافى فى مواجهة غطرسة القوانين وجاهليتها بقيمة ما يتم هدمه وردمه وإهالة التراب عليه ،ستقول إنك لم تجد حلاً وأن القانون يسرى على الكبارى والمجارى والترع والمصارف، ستقول قُضى الأمر سأقول لك أنظر كيف ترد إليه الاعتبار ، نحن نتحدث عن أهم كاتب مصرى فى العصر الحديث ، ولن يكون هناك عصر حديث ونحن لا نصنع من يحيى حقى قيمة تليق بالبلد التى عشق ترابها وناسها لن أخبرك بما يفعل الغرب والشرق ببيوت ومقابر مشاهير الأدب والفن ، لن أخبرك بالتدفق السياحى لمشاهدة كل هذا ، لن أخبرك فأنت أدرى منى ، لكننى أشير لك لتنظر حولك لترى الدويلات الصغيرة وهى تبيع أى شىء مقابل الحصول على تاريخ ـ أى تاريخ ـ ، وأنت تدفن أجيالا من أدباء وكُتاب ومثقفين تعرف قيمة يحيى حقى وعاشتْ وشاهدت ما حدث له ولم يروعها المشهد !،وصلتُ بشكل شخصى إلى هذا المنحنى وهو خطر بلاشك، ربما كانت دراما صعود روح محمد أبو الغيط جعلتنى أفقد عقلى بالفعل ، كاتب مصرى موهوب يموت ويدفن هناك ، وقيمة مصرية كبرى تُهدم هنا!، لا علاقة بين القبرين بالطبع ، لكننى رومانتيكى كما قلت لك ، بكيتُ كما تفعل المتألمات من النساء ،وشهقت مرة أو مرتين وجلست أكتب خيبتى ومرارتى مسجلا التاريخ حتى لا أنسى .

 

للمزيد: موقع التعمير للتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيس بوك التعمير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى