منوعات

حسام مصطفى يكتب :تمارين يومية للوقوف على قدم واحدة!!

الحزن عميلُ الشتاء السرّي، يتسلّل مع أوّل نسمة باردة تطرُق الأبواب، وأوّل قطرة مطر تغسل الشوارع، فيفتح خزائن الذكريات، ومغارات الهزائم، وأقبية الحنين، يعيث فسادًا في المشاعر، يُحرّر الشوق من سلاسله، يُطلق الوجع من محبسه، يكرّر نفسه كالفيروس على كل جدار، لتجد نفسك في النهاية أمام جيوش كل شيء: الخوف والألم والرهبة والإشفاق والوحدة والذكريات والفقد والخذلان والمرارة والفجيعة، دون أن تملك في المواجهة سوى الصمت، ونظرة عين تريد أن تقول كفى، لكنها لا تعرف فعلا كيف تفعلها!

أكره الشتاء كما أكره الحقيقة، وحبيبتي التي مضت دون وداع، فسلخت روحي، وسحبت معها ما بقي من إيماني بأي شيء، ومديري الذي لا يرى فيّ إلا يدًا تكتب، وعينا تستخرج الأخطاء، مُركّبة على “شاسيه” بأقدام لا تجيد سوى الحضور للعمل، وبائع الخضراوات الذي يستغلّ جهلي ويعبئ لي ثمارا ذابلة، أو يُنقص ميزانه لثقته أن نظري الضعيف لن يكتشف ما يجري.

أكره عيني الحولاء بوضوح يشوّه الصورة الرومانسية التي أحاول خلقها لنفسي، ولا يمنحني جدية كافية عندما أنظر في غضب، ويقلب الأمر إلى مزحة سخيفة، لا تستدعي الضحك، إنما قلب الشفاه بقرف.
أكره الوحدة والموت والفقد والنهايات وانتظار ما لا يجيء، أكره الكراهية!

تمتّصني القاهرة كنحلة تقضي وطرها من زهرة، ثم تدفعها عنها لغيرها، وأجدني على رأس كل ليلة أفكر جدّيا فيما أفعله ها هنا، من أنا؟ ومتى ينكشف لي دوري في السيرك الكبير؟ أفتش عن الطريق الذي كان واضحا ذات يوم، ثم لم يعد كذلك، وأراجع الأحلام التي كنت أراكمها في جعبتي يوم بدأتُ الرحلة المجهولة، فأصطدمُ بحروف متكسّرة ووحيدة لا تقوى على الالتحام معًا لتكوّن كلمة مفيدة!

لا شيء يُضيء في عتمة الحزن سوى الحب، ومَن لا حبّ له، عبدٌ أسودٌ مصلوبٌ على قارعة الطريق، تأكل الطير من رأسه، رهين ذكريات أذابتها حرارة الشمس، وأفنتها عقارب الوقت، على ذمّة أيام موعودة، تقول الأسطورة إنها خُلقت من أجله وحده ذات زمن، وعلى مقاسه تمامًا، لكنها -في أحسن الاحتمالات- ضلّت الطرق، ولا تزال تبحث عن وسيلة لوصل ما انفصل، واستئناف ما انبَتّ، وفي أسوئها، ملّت البُعد، فحطّت في رحال سواه!

(يهبّ هواء عنيف محمّل بأتربة، تفرش أجنحتها في القلب، تجاهد للتشبث بوريد أو شريان، قبل أن يمتّصها الفيض العارم، ويعيد تسكينها في مكان لم تنتظره. صوت التكسر الذي أسمعه.. لمن؟)

لا أجد الذين أريدهم حين أريدهم، مكوّن سري دائمًا ما يتدخّل في اللحظة الأخيرة، ليفسد تظاهرنا بالمودّة، ويلتهم لحم النفاق حلو المذاق، ولا يُبقي منه سوى العظم النافر كريه المنظر لزج الملمس، يذكرني بالهباء الذي قضيت أراكمه، وأسميه –تدليلا- حياتي!

لعلّي -هذا ليس أكيدًا بالمرّة، لكن لعلّي- أسامح الأصدقاء، فلهم أن يخونوني من حين لآخر، كسرًا للملل. وأسامح الأيام، فلها أن تشعر بوجودها من حين لآخر، بوخزي، ومسح بلاط الاكتئاب بقلبي، وأسامح الليل، فله أن يستأسد عليّ من حين لآخر، ويريني على شاشته أسوأ كوابيسي، وأسامح الحب، فله أن يكون غامضا ومريبا –وربما حقيرا- من حين لآخر، وبيده إبر ساخنة ينغزني بها تحت جلدي، لكني لن –دون لعل هذه المرة لأنني متأكّد- أسامح نفسي أبدًا، حتى إن لم يكن هناك سبب منطقي لأفعل، مسامحة الذات تخلٍ عن ميراث الحقد المقدس في العقل الجمعي للحيوانات والبشر على حد سواء، ونكوص إلى ما قبل اختراع الإنسان نفسه.

أُغلق عيني عادة على الحزن، كي أحبسه داخلي، فلا تتسرّب منه قطرة واحدة في فضاء لا أملكه، أرتدي ملابس رسمية سوداء لاستقباله، وأعدّ أقداح البكاء “سكر زيادة”، فأضيّع عليه فرصة اتهامي بالبخل. أحيانا أتساءل في فزع: ماذا لو لم نعد صديقين حميمين في يوم من الأيام؟ ماذا لو أوقع بيننا الوشاة؟ كيف سيُمضي كلّ منا وقته وحيدا خاليا، ثم أفيق على ربتة حانية من يده، وطعنة بيده الأخرى في قلبي، فأطمئن أن رفقتنا ستطول قليلا.

لا أفكّر كثيرًا قبل النزول من المنزل، إن كنتُ سأرجع أم لا (هل الموضوع بكل هذه الأهمية فعلا؟!) لكني أغلق النور إلا قليلا، وأودّع الأشياء بنظرة عابرة تحسّبا، الأمر لا يعدو كونه لعبة، من ينجح في تسديد ركلته أولا، يسجّل اسمه في لوحة النصر، وإن كان الأمر نسبيًا لأقصى درجة، فالكل خاسر في النهاية.

أرشّ الشوارع بنظرات نهمة، تنغرز في الحنايا وتُجرّف التفاصيل، أتسمّع وقع أقدامي على الأرصفة بسلطنة، أمرّر الحياة خُلسة للكائنات التي أعبرها وتعبرني، وأمنحها تذكرة إقامة دائمة في ذاكرتي، أتدفّق ساخنا في عروق الوقت، وأمنح العالم مبررًا محتملا ليوجد يوما آخر.

(الحزن والد ومولود، أب وابن وروح قدس، دين وفلسفة وطريقة، صوفية وبوذية وزرادشتية، أرض وسقف وممر ونافذة).

في أوقات فراغي، أرتّق ثقوب القلب الجديدة على عُجالة، ثم أتفرغ تمامًا للتدرّب على الوقوف على قدم واحدة، والقفز كاللقلق، بعد الخذلانات التي ألقمتني ثديها، لا أحد، يقينا لا أحد، يدري ما الذي يمكن أن يُطلَب منّا غدا، فماذا لو حكمتْ اللقالقُ العالم مثلا، وأمرتنا أن نسير على قدم واحدة؟

ساعتها سأكون الوحيد القادر على الاستجابة، ما يمنحني أفضليةً، عشتُ عمري أحلم بها دون أن أنالها، رغم كل ما بذلته من جهد، لا أدري ماذا سأفعل بها حقيقة، لكن سأحصل عليها ثم أفكّر.

في ليل الشتاء، أُخرج زرافتي السرية من تحت الفراش، وأمتطى ظهرها، أصعد لأعلى نقطة في رقبتها، وأملّس على رؤوس النجوم بحنو، لأهبها بعض الطمأنينة، أنا أعرف أن البقاء على هذه الارتفاعات الشاهقة فترات طويلة يصيب بالدوار، ويخلّف في القلب حسرة تحتاج الطبطبة. هي فكرة عابرة، لكن شاملة إلى حد ما: الحزن قوّاد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى