منوعات

أحمد الشهاوي يكتب : الفاسدُون في عقائدهم!!

المُفسد هو من جاوَزَ الصَّوابَ والحِكْمَةَ ، وصارَ فاسِدًا ، وَلاَ يفكِّر في أن يُمارس الإصلاح يومًا في حياته ، أي أنه اعتاد الإتلاف والتخريب ، وحرق الأرض التي يأكل منها ، ويعيش عليها ، ويتحدث لغتها ، ويدين بدينها.

لكنه يرى نفسه غريبًا وشاذًّا ، وفوق البشر ، مُعتقدًا أنه أُوتِي من المعرفة والعلم والذكاء ما لم يتصف به غيرُه من البشر.

ويظل يعيش على توهماته وأكاذيبه ، غير راضٍ بتغيير نفسه ومُداواتها من الاعتلال والسقم ، ومن ثم يُنصِّب نفسه إلهًا أو على الأقل ظلا للإله ، أو حاميًا للدين ، ويبدأ في محاربة أعداء الدين ، الذين يُحدِّدهم ويقصدهم من أهله وجيرانه وبني مِلَّته ، ومثل هذا يكون قد خرُبت روحه ، وفسد ملح قلبه ، واضطربت نفسه ، وأصاب جهازه النفسي عطبٌ ، وضربه التَّلَفُ وَالْخَلَلُ ، بعدما انحلَّت أخلاقه وانحرفت عن الطريق القويم .

وأفسد الشَّخصُ – كما يشير قاموس المعاني – أي كفُر وارتكب المعاصي { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } سورة البقرة ، من الآية 30. { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } [سورة البقرة، الآيتان 11/12]، وقال سبحانه وتعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}.. الآية (56) من سورة الأعراف ، ويقول سبحانه في كتابه الحكيم { سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ } سورة البقرة ، الآية 20و{وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} الآية (33) من سورة المائدة.و{وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} ﴿ الآية 74 من سورة الأعراف﴾ .

ومفردة الفساد والمُفسدين وحقل دلالاتها ومشتقاتها في القرآن الكريم كثيرة ، وقد ذُكرت خمسين مرةً ، والمدهش أن كلمة صلاح ذُكرت في القرآن خمسين مرةً أيضًا ، تمامًا مثلما وردت كلمة رجل مفردة أربعا وعشرين مرة ، ووردت كلمة امرأة أربعا وعشرين مرة ، كي يعتبر الناس ويتعظوا ، ويروا الأضداد ، ويدركوا الإعجاز في التساوي ، وحكمة القسمة المنصفة ، ولكن يبدو أن المُفسدين لا يتعظُون ، ولا يهمهم أن يعلموا ، ولا يُدركون جُرم ما صنعت أياديهم .

فأسوأ شيءٍ يمكن أن يرتكبه الإنسان في حق نفسه ، وحق المجتمع ، ومن قبلهما الافتئات والتجرُّؤ على الله ، أن يدلِّس ، ويكذب ، ويحرِّف ، ويُؤوِّل تأويلا مغلوطًا، ويُغيِّر في قولٍ صحيحٍ ثابتٍ ، أو أن يأخذ جُزءًا من آيةٍ قرآنيةٍ على طريقة ” ولا تقربُوا الصلاة … ” ، ويبني عليها حُكمًا ، أو يفتي في أمر لا يدريه ، أو يُحرِّم ما حلَّل الله ، دون أن يرمش له جفنٌ ، أو يوجعه ضميره ، أو يهتز قلبه ، أو يرتجف من خوف الله ، الذي يدَّعي أنه يحمي ملكوته في الأرض ، ومن ثم يتخذ من النصوص الصحيحة الثابتة التي حرَّفها ذريعةً للقتل والسَّفك والحرق والترويع والتخويف والترهيب ، سارقًا الأموالَ ، هاتكًا الأعراضَ ، سابيًا ومُغتصبًا النساء ، مُعليًا من الباطل ، جاعلا منه رايتهُ المرفُوعة باسم الدين .

ومثل هذا من المؤكد أن في قلبه مرضًا لن يبرأ منه مادام مُتماديًا في الانحراف والضَّلال والشذُوذ والباطل من السُّلوك والقول ؛ لأن الذي يقصد الشريعة ينبغي أن يكون عارفًا بفقهها ، بعيدًا عن الجهل والفهم الخاطىء للدين ، والتأويل السَّيء والفاسد لما تركه لنا الصحابة والأئمة والفقهاء وأصحاب المذاهب والثُّقاة من الأسلاف المُعتبرَين وأصحاب الحُجج ، إضافةً إلى القرآن والسنة النبوية .

والسؤال الآن : هل هناك فسادٌ عقائديٌّ ؟

نعم موجود ، ومُستشرٍ ، وفي ازديادٍ مخيفٍ ، وكلما مرَّ يومٌ انتشر ، وعمَّ البلاد ، وطال العباد ، لأن الذين يعملون في مجال الدعوة غير مُؤهلِّين دينيًّا ، ومعرفيًّا ، وبعيدين كل البعد عما ينبغي لهم التزوُّد به ، وحمله في عقولهم ونفوسهم ، يهتمون بالقشر تاركين اللُّب فقط ، تُسيِّرهم أيديولوجية مذهبية ، ومنهم من يعبد الطائفة أكثر من عبادته الله سبحانه وتعالى ، ومنهم من ليس على المذهب الذي يدعو إليه بشدَّةٍ ونشاطٍ وحماسةٍ عزَّ نظيرها ، لكنه يدعو إليه مُعتقدًا أنه الطريقُ الوحيد والصحيح إلى الذهاب إلى الجنة ، أو بأن حُماة هذا المذهب يدفعون بسخاءٍ ، ناسينَ أن الناس فُطرُوا على الدين الصحيح ، ولا يحتاجون وسيطًا ، أو داعيةً غير أمينٍ على أهله ودينه ، ينحرف بطريقهم من أجل مصلحته هو ، وليس ابتغاءً لمرضاة الله .

وهذا يذكرني بما تم العثور عليه في صعدة ( اليمن ) من جوازات سفر ، بها تأشيرات تخوِّل أصحابها من الحوثيين السفر إلى الجنة . وهي جوازات كان قد أصدرها الإمام الخميني ” 24 من سبتمبر 1902 م – 3 من يونيو 1989 م” في ثمانينيات القرن الماضي ، ووزِّعت في سريةٍ وتكتم شديد على مُريديه وأتباعه في أماكن كثيرة من العالم ، و منهم أتباعه من الحوثيين من أصحاب المذهب الزيدي .

ولا يخفى على أحد أن جماعة الحشاشين في قلاع آلموت ، عبر مؤسسها حسن الصباح (430ه‍/1037م – 518ه‍/1124م)، قد فعلت الشيء نفسه سنة عام 1094، و من بعده بأربعمائة سنة تقريبا ظهر البابا لاون العاشر ( 11من ديسمبر 1475 — 1 من ديسمبر 1521 م) بابا الكنيسة الكاثوليكية السابع عشر بعد المئتين ، و أصدر صكوك الغفران الشهيرة ، وهي ” الإعفاء الكامل أو الجزئي من العقاب الدنيوي على الخطايا التي تم الصفح عنها ” .

فنحن ندعو إلى إصلاح المجتمع عبر القضاء على الفساد ، واجتثاث جُذُوره ، وحرق رؤُوسه ، وهم كُثرٌ ، أو على الأقل الحدِّ من انتشاره ، وهذا أضعف الإيمان ، والتنبيه إلى رموزه ، لكننا ننسى ، أو نتناسى – عمدًا أو انشغالا أو حتى سهوًا – أن نحارب الفساد العقائدي الذي ضرَب الناس ، وصارت الفتاوى هي البضاعةُ الرائجةُ والأكثر انتشارًا ، ولم يحدث في تاريخ الأمة الإسلامية ، أن صارت الفتاوى في زيادةٍ سرطانيةٍ كما نحن فيه الآن ومنذ سنواتٍ .

وربما جاءت هذه الزيادة منذ أن تَسيَّس الدين ، وصار الإسلام السياسي ، أو التأسلُم ، أو المتأسلم أو المتأسلمُون أو الإسلامجية ، وغيرها من تعبيراتٍ ومصطلحاتٍ ، يتم تداولها في الكتابات والأدبيات المعاصرة التي تُؤرِّخ للسياسة والدين معًا في وطننا ، وأصبح ميدان الدعوة مُسيَّجًا أو مُحاصرًا بالسياسة ، محمُولا على رؤُوس الجهلاء الذين يفتون بغير علمٍ ، ومن ثم عمَّ الإضلالُ والإظلامُ ، وفي غيبة العلماء العارفين بأمور الدين ( … اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا) ، كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن أمَّته لن يبقى فيها علماء حين أخبر قومه بهذا الحديث ؛ ولذا يحتاج ميدان الدعوة إلى تصفيةٍ وتنقيةٍ وضبطٍ واجتثاثِ من ليس له أدنى علاقة بالعمل الإسلامي ، أو من يستغل موقعه كخطيبٍ وإمامٍ في مسجدٍ ، أو داعية بين الناس ( يشتغل بالقطعة ) ، أي مقابل أجر في وسيلةٍ إعلاميةٍ أو غيرها من الأماكن والجهات التي يمكن أن تمنحه مالا ، لتسييس الدين ، وحمل أوجهه على ما ليس تحملُ أو تتحمَّلُ من دلالاتٍ ومعانٍ ، بُغية تسييد مذهبٍ ما ، أو الدعوة إلى جماعةٍ ما ، أو انتصارًا لتيارٍ أو تنظيمٍ ، لأن الفوضى في هذا الميدان تجعل الناس مترُوكين نهبًا لأدعياء الدين ، الذين ليسوا أهلا للفتوى أو الاجتهاد ، ومن الواجب هتك أستارهم ، وفضحهم ، ورفع أذاهم عن الخلق ؛ ليسلم المجتمع من تجارتهم ، التي للأسف تروج وتربح يومًا بعد آخر .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى