علاقتى مع “محمد حسنين هيكل” محدودة جدا.. أعرفه كأستاذ.. إلتقيته مرة واحدة فى حفل توزيع “جوائز نقابة الصحفيين” التى ابتكرها ونفذها “محمود عوض“..
ثم كان لى لقاء مطول معه فى مكتبه بمنزله.. نظم اللقاء “إحسان بكر” واصطحبنا – أسامة سرايا وعاصم القرش والعبد لله – لكى نقدم له مجلة “الأهرام العربى” التى كانت قد صدرت قبل أسابيع قليلة!!
إعتزازى بأستاذية “هيكل” لا تختلف عن اعتزازى وتقديرى لكل أساتذة المهنة الكبار.. أناقش أراءه ومواقفه متجردا من أى انبهار به أو بغيره.. وللإنصاف كان “محمود عوض” هو الذى علمنى تلك الفضيلة.. لدرجة أنه اختارنى يوم حفل توزيع “جوائز نقابة الصحفيين” لكى أطلب من “هيكل” صورة مع عدد من الزملاء, خاصة وأنه كان لا يظهر فى مناسبات عامة قبلها.. إقتربت منه وقدمت نفسى.. ثم قلت: “تعلمت أن الصحفى لا يطلب صورة مع نجم أو مسئول.. لكننى فعلت مع “عمر التلمسانى” عندما ذهبت إليه لإجراء حوار بعد خروجه من المعتقل فى بداية عهد مبارك.. واليوم تتملكنى الرغبة نفسها”.. نظر “هيكل” نحوى ضاحكا.. سألنى أكثر من سؤال, وكنت أجيب باقتضاب شديد.. أمسك يدى ونهض معى, قائلا: “يسعدنى أنك تطلب صورة مع الشيخ عمر التلمسانى والشيخ محمد حسنين هيكل”.. فانفجر كل من سمعوه ضحكا.. وكان بينهم “عاطف صدقى” رئيس الوزراء آنذاك!!
عشرات الصور تم التقاطها له مع صحفيين كثر.. معظمها إن لم يكن كلها كنت إلى جواره!!
أما حكاية اللقاء الطويل فى مكتبه.. فهى خارج السياق!!
المهم أن حكاية “هيكل” مع “السادات” وبينهما “موسى صبرى” وآخرين.. تستحق أن نتوقف أمامها.. لأنها ليست حكاية “كاتب صحفى كبير” مع رؤساء مصر.. لكنها حكاية زمن امتد لنحو سبعين عاما!!
سأل “موسى صبرى” خلال حواراته: “سيادتكم فاهم هيكل تماما.. تعرف كل أساليبه.. لماذا أبقيت عليه كل هذا الوقت.. كما أنك كلفته بأعمال فيها ثقة؟!”
أجاب “السادات” قائلا: “كان عندى أمل أنه يكيف نفسه للوضع الجديد معى.. هذا لم يحدث.. كان عبد الناصر مغرما بسماع الأخبار.. أى أخبار.. الأخبار الشخصية أيضا.. وكان هيكل أول من يتحدث إلى عبد الناصر وآخر من يتحدث إليه فى المساء.. كان بينيم عبد الناصر ويصحيه.. يبلغه بالأخبار ويحشر فيها ما يريد أن يحشره.. أراد أن يفعل هذا معى.. لماذا؟! لأننى لا أريد أن أعرف هذا النوع من الأخبار.. لا أسأل عن سلوك شخص أبدا.. ولا عن رقابة تليفونات.. لا يهمنى أن أعرف علاقات شخصية.. هذه مسائل لا تهمنى وليست من عملى.. جرب هيكل هذا معى.. وجد أنها طريقة غير مجدية.. عرف مثلا أن سامى شرف جاء لى فى أول يوم فى قصر الطاهرة, ومعه تقرير الرقابة على التليفونات.. سألته.. ما هذا.. قال هذا دوسيه كنا نقدمه يوميا للرئيس عبد الناصر.. خاص برقابة التليفون.. سألته.. هل هناك قضية سياسية.. أجاب.. لا.. قلت له.. هذا لا يهمنى”!!
أتوقف قليلا أمام بداية إجابة السؤال.. نقلتها بالنص لأنها حافلة بألغام وأسافين وسموم.. فهو يعترف “كان عندى أمل يكيف نفسه للوضع الجديد معى” أى أنه كان يريد تغيير بوصلته.. ثم أضاف: “عبد الناصر كان مغرما بسماع الأخبار” وهى فضيلة.. بل واجب على أى مسئول.. لكنه يضع السم فى باقى الجملة: “والأخبار الشخصية أيضا”!! أى أن “عبد الناصر” كان يحب “النميمة” وكان “هيكل” يمارس ذلك معه.. وبعدها يقول عن “هيكل” أنه: “يبلغه بالأخبار.. ويحشر فيها ما يريد أن يحشره”!! وباعتبار أن “الذكاء الساداتى” من النوع الذى يستهدف الدهماء.. هو يحكى بهذه الطريقة.. لتعتقد أن “عبد الناصر” كان فارغا.. سطحيا.. ساذجا.. يحب الأخبار الشخصية – النميمة – وأن “هيكل” كان يلعب على هذا التوتر.. ليس هذا فقط.. بل أجهزة الدولة تمارس اللعبة نفسها, وأن “سامى شرف” يقوم بتقديم هذه “الوجبة” مع بداية كل صباح.. لكن “السادات” باعتباره رجل عميق.. مشغول.. سياسى رفيع المستوى.. لا تشغله هذه الأمور الساذجة.. رفض الاطلاع عليها!!
ثم يقول “السادات” أنه لا علاقة له بعمليات اغتيال “عبد الناصر” ميتا!!
كان يعلم أن كلامه توجيهات لكل الذين يطمعون فى نيل رضاه.. الباحثون عن فرصة فى رحابه.. يقدم لهم الخطوط العريضة لما يريد.. ويترك لهم إبداع العزف لألحانه!! وفى ضوء ذلك يختار الذين يرى فيهم قدرات تدمير “الجمهورية الأولى” والإساءة لزعيمها وقائدها.. إلتقط الخيط عشرات, وتسابقوا على أبواب الدخول لجنة “الجمهورية الثانية” التى أنتجت رئيسا لمجلس إدارة “الأهرام” كان مسئولا عن إدارة الإعلانات – عبد الله عبد البارى – ثم وصلنا إلى “مدير مطابع” كرئيس للهيئة الوطنية للصحافة حاليا!!.. دون أن أتورط فى ذكر “إعلام سامسونج” بأنه كان “رقمنة” للمنهج فقط.. ودون أن أمس أحدا من القائمين على وكالات إعلان, الذين تملكوا دفة سفينة الإعلام!!
إجابة “السادات” على سؤال “موسى صبرى” تتدفق ليقول: “هيكل لم يجد سبيلا لكى يعرف القرارات السياسية الهامة أو يشترك فيها.. كما كان الأمر مع جمال عبد الناصر.. بل أنه وصل فى نهاية الأمر أنه كان يضع القرارات لعبد الناصر.. خاصة فى فترة مرض عبد الناصر الأخيرة.. كان عبد الناصر فى غاية التعب والإرهاق.. سأروى لك عن هذا.. فوجئ هيكل بأن أول قرار اتخذته كان تصفية الحراسات.. كنت كلفت سامى شرف أن يطلب من لبيب شقير – رئيس مجلس الأمة – وضياء الدين داوود – قيادى بارز فى الاتحاد الاشتراكى ووزير سابق – بإعداد مشروع القرار.. طلبت هيكل بعد أن تقاعسوا.. سألته: عندك جمال العطيفى.. قال: نعم.. قلت له: خذ هذه النقاط الثلاث.. أريد منه أن يصيغ منها قرارا لتصفية الحراسات.. صاغها جمال العطيفى.. لم تعجبنى.. طلبت إعادة الصياغة.. أعاد الصياغة.. وافقت عليها.. أمليت القرار على الصحف.. فوجئ كل مراكز القوى.. قال شعراوى جمعة – وزير الداخلية – فى اجتماع مجلس الوزراء: إحنا وزرا ونقرا القوانين الجديدة فى الصحف؟.. المهم فوجئ هيكل بهذا القرار.. لم يشترك فى صنعه, لأنى طلبت فقط منه أن يصيغ القرار, القانون”!!
وضع “السادات” أصول “علم السياسة” على أنه “خلطة كشرى” حارة!!
أراد أن يقول.. هيكل لا يعرف القرارات السياسية الهامة, كما كان يحدث أيام عبد الناصر.. ثم يتجرأ على القول: “وصل فى نهاية الأمر أنه كان يضع القرارات لعبد الناصر, خاصة فى فترة مرضه الأخيرة”.. ليقول أن “عبد الناصر” كان غائبا.. أو مغيبا بفعل المرض.. نسى أنه كان قد أصبح نائبا لرئيس الجمهورية.. تجاهل أنه صمت ضعفا أو انتهازية – بافتراض صحة كلامه – ثم يضع “سامى شرف” و”لبيب شقير” و”ضياء الدين داوود” الذين سجنهم باعتبارهم من رموز مراكز القوى, فى سلة واحدة باعتبارهم تجاهلوا طلبه – قراره المطلوب – بعدها اضطر إلى أن يذكر استعانته بأستاذ القانون “جمال العطيفى” وكان مستشارا فى “الأهرام”.. وبعدها يتجرأ على صياغة أستاذ القانون – للقرار أو القانون كما ذكر – فلم تعجبه.. طلب إعادة الصياغة.. أعجبته.. أبلغ الصحف متجاهلا “هيكل”.. ثم يباهى الأمة بالسخرية من وزير الداخلية – شعراوى جمعة – حين قال: “إحنا وزرا ونقرا القوانين الجديدة فى الصحف.. المهم أن هيكل فوجئ بالقرار”!!
يسأل البعض عن أصل حكاية “ترزية القوانين” والإجابة يذكرها “أنور السادات” فى كلامه.. وهؤلاء يتحدثون عن انفراد الرئيس بالقرار.. كلام “السادات” أنها من هنا بدأت.. يندهشون عند ذكر “إعلام السامسونج” مع أن “السادات” طبق ذلك قبل ظهور “سامسونج” وأبوه: “أمليت القرار على الصحف”!!.. المهم أنه باغت “مراكز القوى” وصدم “هيكل” بنشر ما لا يعلم.. وكل هذا فعله.. قاله “أنور السادات” فى فقرتين, ضمن إجابة على سؤال واحد.. بعدها مباشرة قال: “ثم كان قرار الروس.. كان ذلك فى أوائل عام 1972.. كنت أبعدت هيكل عن الاتصال بى من أواخر عام 1971.. لأسباب سأذكرها لك – موسى صبرى كان يسمع مستمتعا – وهذا الإبعاد ومعناه عدم الرد على طلبه بالتليفون.. عدم طلبى له.. هذا أسلوب يفتك به, لأنه اعتاد الاتصال وهو وسيلته الوحيدة للتأثير.. عند الانقطاع يشعر أنه تائه.. المهم.. بعد أن أصدرت قرار إبعاد الروس بيومين.. إستدعيت هيكل فى القناطر.. كنت أبعدته أكثر من شهرين.. كنت أتناول عشائى.. كان شهر يوليو وكنت فى البلكونة.. تكلم وأخذ يدافع عن نفسه فى الأشياء التى أغضبتنى.. أنا يا فندم.. أصل الحكاية يا فندم.. إلى آخره.. تركته يتكلم وأنا أتناول طعامى.. فاجأته بقولى: بتتكلم فى إيه يا هيكل.. إنت بتدافع عن نفسك.. أنا لم أستدعك لكى تدافع عن نفسك.. أنا منشغل بموضوع آخر.. أنا لم أسمع شيئا مما قلته.. قلت له: إسمع.. من يومين.. أنا أصدرت قرار بإبعاد الروس عن مصر تماما.. رويت له تفاصيل القرار الذى صدر منذ يومين وبدأ تنفيذه وهو لا يدرى.. قال لى هيكل: هذا قرار لا يصدر إلا عن زعيم.. وغادر القناطر ليقول فى الأهرام أنه قرار خاطئ, وصدر فى غير وقته”!!
صدق أو لا تصدق هذه الحكاية “اللطيفة” لكنها حدثت وتم نشرها فى حياة “السادات” وأعيد نشرها فى كتاب “السادات.. الحقيقة والأسطورة” الذى صدر للتأكيد على أن عدالة السماء صرفت لمصر رئيسا يملك هذه المواهب.. يربط “هيكل” بما يراه جرائم “مراكز القوى” ثم يحدثك عن أنه كان يلاعبه, ويحرمه من نعمة الرد على اتصالاته.. ولتجويد تعذيب “هيكل” يرفض أو يمتنع عن الاتصال به.. ليقول بعدها: “هذا أسلوب يفتك به” ليوضح كيف كان يمارس تعذيب أكبر صحفى فى مصر والعالم العربى – إذا صدقنا كلامه – بعدها يقول: “إستدعيت هيكل فى القناطر” ليبعث برسالة إلى كل الصحفيين.. أن استدعاء الصحفى منحة من السماء فى زمن “الديمقراطية لها أنياب” ويتلذذ فى إسهاب وصف المشهد.. “كنت أتناول عشائى.. كان شهر يوليو وكنت فى البلكونة” والوصف لا يحتاج إلى كاتب سيناريو ولا مخرج دراما.. فقد قدمه “السادات” ناطقا.. ويدخل “هيكل” مذعورا.. متلهفا على استغلال الفرصة.. يتكلم ويتكلم مدافعا عن نفسه.. ينهره السادات وهو يتناول طعامه – كما ذكر – ويقول له: “بتتكلم فى إيه يا هيكل.. إنت بتدافع عن نفسك.. لم أسمع شيئا مما قلت.. وقلت له أنا أصدرت قرارا بإبعاد الروس عن مصر تماما”!!
أعلم أن من يقرأ.. خاصة إذا كان من “عشاق السادات” قد لا يصدق ما أنقله من كتاب قدمه “المحامى الأول” عن “السادات” وأن هذا الهراء روجته الصحف.. بل أن آلاف السفهاء رددوه حكيا وكتابة.. قد يكون صدقه مواطنين صالحين من الشرفاء!! فهذا رئيس مصر أصدر قرارا منذ يومين وبدأ تنفيذه, دون أن يعرف أى رئيس تحرير.. أو يدرى حتى رئيس تحرير “الأهرام” التى كان صحفييها الصغار وقتها يعرفون الأخبار وقت طبخها.. واستمر ذلك لسنوات.. فقط أذكر أن “محمود معوض” نشر فى الأهرام تفاصيل “قانون العيب” بعد رحيل “هيكل” عنها بسنوات.. وغضب وقتها “السادات” لدرجة أنه طلب فصله!! ولأن “السادات” تميز بجرأة نادرة على “فبركة تاريخ” يقول لكبير الصحفيين فى زمانه أن “هيكل” قال له: “يا فندم هذا قرار لا يصدر إلا عن زعيم”.. ثم يقول عكس ذلك أمام الصحفيين فى الأهرام.. دون أن يدرى معنى كلامه – ونحن يمكن أن نصدق ما قاله – فهذا ليس معناه غير أنه كان مرعبا.. يصاب من يقف بين يديه بالخوف الشديد.. لدرجة أنه يقول له أنت زعيم, ثم يرى العكس بعد أن يتركه!!
توقفت أمام فقرتين فقط, من إجابة على سؤال واحد!!
أردت توضيح حقيقة شديدة الأهمية: “الرئيس الساذج يمكن أن يخدع أمة.. إذا غابت الحرية ومعها العقل والمنطق”!! وهذا حدث فعلا منذ بدأنا زمن “الجمهورية الثانية” التى تحتضر!!..