منوعات

يسرى عبد الغنى يكتب : ملامح ثقافية من مصر الإسلامية .. الدين والمذاهب في الدولة الأخشيدية

كان الإسلام أكثر الديانات انتشارًا في الدولة الإخشيدية، واتبع القسم الأكبر من الناس مذاهب أهل السُنَّة والجماعة الأربعة، مع بقاء المذهب الحنفي المذهب الرسمي لِلدولة كونه كان المذهب الرسمي لِدولة الخِلافة العبَّاسيَّة.

وإلى جانب مذاهب أهل السُّنَّة، كان هُناك فئة صغيرة من المُسلمين من أتباع المذهب الشيعي الاثنا عشري، وقد تمركز هؤلاء في جبل عامل بالشَّام (جنوب لُبنان المُعاصر)، وكانت هُناك فئة أُخرى تتبع المذهب الإسماعيلي بِفعل تغلغل الدعوة الفاطميَّة في مصر،

ومن المعروف أنَّ أبا علي الدَّاعي الذي ساعد عُبيد الله المهدي على الهرب من مصر إلى إفريقية في سنة 291هـ المُوافقة لِسنة 904م، كان قد أسَّس مدرسةً إسماعيليَّة في مصر عُرفت بِإخلاصها لِلفاطميين، وشجَّع تلامذتها الفاطميين على غزو هذا البلد. وبِفضل هؤلاء الدُعاة أضحى في مصر عدد غير قليل من الأنصار الذين شجَّعوا بِدورهم المُعز لِدين الله على غزو مصر والاستيلاء عليها.

ويبدو أنَّ بعض المصريين كانوا أكثر استعدادًا لِتقبُّل المذهب الإسماعيلي بِسبب ميلهم إلى آل البيت والإمام علي بن أبي طالب، والتفافهم قديمًا حول واليه مُحمَّد بن أبي بكر.

وقد تميَّز عهد الدولة الإخشيدية بِظُهور عدد كبير من أعلام الفقه حظوا بِرعايةِ طيِّبةٍ من الأُمراء الإخشيديين، وكان لهم نشاط علمي ملحوظ في الحياة العلميَّة وكان على رأس الفُقهاء الشافعيَّة في هذا العهد أبو بكر مُحمَّد بن جعفر الكناني المصري المعروف بابن الحدَّاد الذي تولَّى القضاء والتدريس بِمصر.

وظهر من فُقهاء الشافعيَّة – أيضًا – أبو رجاء محمد بن أحمد بن الربيع الأسواني، وعبدُ الله بن مُحمَّد الخصيبي، وعبدُ الله بن مُحمَّد بن عبد الله بن الناصح.

أمَّا فقهاء المالكيَّة فيأتي في مقدمتهم: هٰرون بن مُحمَّد بن هٰرون الأسواني، وعلي بن عبد الله بن أبي مصر الإسكندراني، وأبي بكر أحمد بن عمرو الطحَّان، ومُحمَّد بن أحمد بن أبي يُوسُف الخلَّال، ومُحمَّد بن يحيى بن مهدي بن هٰرون الأسواني، وأحمد بن مُحمَّد بن جعفر الأسواني.

ثاني أكثر الديانات انتشارًا في الدولة الإخشيدية كانت المسيحيَّة، تليها اليهوديَّة. والواضح من النُصُوص التاريخيَّة أنَّ أهل الذمَّة عاشوا في هُدوءٍ وسلامٍ طوال عصر الأُمراء الإخشيديين، كما كان حالهم في عصر الأُمراء الطولونيين، ولم يُنص عن اضطهاداتٍ أو عُسفٍ نزل بِأهل الذمَّة في ذلك العصر.

والحقيقة أنَّ سوء المعاملة التي كان أهلُ الذمَّة يشكون منها في بعض الأحيان لم تكن مُوجهة إليهم بِصفتهم الدينيَّة وإنما كان الأُمراء الإخشيديُّون – وخاصَّةً مُحمَّد بن طُغج الإخشيد – يُصادرون أموالهم أحيانًا، مثلما كانوا يُصادرون أموال المُسلمين، في ذلك العصر على حدٍ سواء.

وكان الخِلاف والنِزاع بين صُفوف القِبط في مصر ينتهي أمره أحيانًا إلى الأمير الإخشيدي فيفصل به، وقد ينتهز الأمير الفُرصة لِيستحوذ لِنفسه شيئًا من أموال الكنيسة وكُنوزها.

فقد حدث في ولاية مُحمَّد بن طُغج انشقاقٌ بين البطريرك الملكاني سعيد بن البطريق وبين رعاياه من الملكانيين، وانقسموا إلى فريقين: فريقٌ مع البطريرك وفريقٌ عليه يتزعَّمه أُسقف تنيس ابن النخيلي وأُسقف الفرما ابن بليحا، ولمَّا تُوفي ابن النخيلي أُقيم بدله تاوفيلا بن الشقي، وقد حاول الأخير تهدئة النُفوس وإصلاح الأحوال وإعادة الناس إلى طاعة بطريركهم، لكنَّ الخصام استمرَّ بين الفريقين، حتَّى لجأ خُصُوم البطريرك إلى الإخشيد وحرَّضوه عليه، وأرسل الإخشيد أحد قادة جيشه على رأس جماعةٍ من الجُند إلى مدينة تنيس، فختم على الكنائس الملكانيَّة بها، وحجر على جميع ما بها من الآلات والآنية، وملأ بها كثيرًا من الصناديق وحملها إلى سيِّده ابن طُغج.

فلمَّا عرف الأُسقُف تاوفيلا بن الشقي بِذلك، طلب من الكُتَّاب القِبط أن يتوسَّطوا لهم لدى الأمير لِتصفية الجو، والعفو عن البطريرك الملكاني، فتمَّ لهُ ما أراد، وأُعيدت إليهم مُمتلكات الكنائس الملكانيَّة، مُقابل دفع خمسة آلاف دينار لِلأمير.

ويُلاحظ أنَّ أكثر الأعمال التي اشتغل بها أهلُ الذمَّة في هذا العصر غالبًا كانت أعمالًا ماليَّة، مثل جباية الخِراج وغيرها، والدليل على ذلك ما جاء في الأوراق البرديَّة من الإشارة إلى الجهابذة وعُمَّال الخِراج القِبط، ومنها مثلًا وثيقة تتضمَّن إيصالًا مُؤرخًا من سنة 235هـ المُوافقة لِسنة 942م، ويُشير إلى أنَّ بكام بن دانيال دفع الجزية المُقررة عليه، وقدرُها ثُلث دينار وثُلثا قيراط، في حُضُور أبي الحسن بن عيسى لِعامل الجباية تُيُودور بن خاييل.

كان من بين المُوظفين النصارى، الذين أشرفوا على الشؤون الماليَّة في هذا العهد: ابن عيسى بقطر بن شفا، وتذكر بعض الروايات أنَّهُ تولَّى خراج مصر لِلأُمراء الإخشيديين، ومنهم أيضًا إبراهيم بن مروان في عهد أُنوجور، وكذلك جُرير بن الحصان.

ويُلاحظ أنَّ استخدام المسيحيين واليهود في أواخر العهد الإخشيدي لم يكن قاصرًا على جباية الخِراج وتحصيل الضرائب وما يرتبط بِذلك من الأعمال الماليَّة. فتذكر الرواية القبطيَّة أنَّ كافور الإخشيدي كان لهُ وزيرٌ من القِبط يُسمَّى أبو اليمن قُزما بن مينا، وتُضيف الرواية القبطيَّة إلى ذلك أنَّهُ وُلِّي خراج مصر ودبَّر أُمورها بعد وفاة كافور، حتَّى استقرَّ الأمر لِلفاطميين، فلمَّا لمسوا في أبي اليمن قُزما بن مينا الثقة والأمانة، أبقوه في مكانه ناظرًا في كورة الفسطاط.

كما يُلاحظ في هذا العصر ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ مصر الإسلاميَّة، وهي استخدام اليهود، إلى جانب النصارى، في شُؤون الإدارة وأعمال الحُكومة. إذ كان يعقوب بن كلس اليهودي من مُستشاري كافور، ومن أقرب الناس إليه، وأمسك زمام الدواوين بالشَّام ومصر، وكان جميل المُعاملة وصائنًا لِنفسه، فأصبح مُقرَّبًا من كافور الذي كان يستشيره في كُل أُموره، حتَّى بلغ الأمر أنَّهُ أمر جميع رؤساء الدواوين بِألَّا يُصرف درهم أو دينار إلَّا بِتوقيع ابن كلس. وبلغ من شدَّة إعجاب كافور بابن كلس أنَّهُ رغب بِتوليته الوزارة ولكن حال دون ذلك دينه اليهودي، إذ لا يجوز أن يتولَّى أُمور المُسلمين المعيشيَّة الحسَّاسة إلَّا مُسلم، فلمَّا سمع يعقوب بن كلس بِذلك طمع في الوزارة واعتنق الإسلام، فتضاعف حُب كافور وتقديره له. ولكنَّ يعقوب بن كلس ما لبث أن رحل إلى المغرب والتحق بِخدمة الفاطميين بعد وفاة كافور .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى