كان “معاوية بن أبى سفيان” يرى أن “السياسة نفاق.. والنفاق سيد الأخلاق”.. ومن يقرأ سيرته لا يحتاج إلى جهد للتأكد من إقتناعه بذلك.
وكان “أنور السادات” لديه مفهوم عن “الخداع الاستراتيجى” لا علاقة له بمعناه فى علم السياسة.. فمعناه عنده أن يقول ما لا يفعل.. وأن يفعل ما لا يريد مؤقتا.
قد يرى البعض فى ذلك صوابا, إذا تم اللجوء إليه لتضليل الأعداء.. لكنه يصبح جريمة لو أتخذته أسلوبا فى التعامل مع الأصدقاء وأبناء وطنك.. الخطير أن يتحول ذلك إلى “منهج” يطبقه كل من حكموا “الجمهورية الثانية”!
قطع “أنور السادات” وعدا على نفسه بأن يتخلص من “السوفيت” خلال لقاء جمعه مع “كمال أدهم” مستشار الملك “فيصل” والمسئول عن جهاز المخابرات السعودى خلال شهر نوفمبر عام 1970.. وحين عقد العزم على التخلص من “على صبرى” نائب الرئيس..
إستدعى السفير السوفيتى يوم 22 إبريل 1971.. وأبلغه بأنه سيتخذ القرار.. ويجب أن تعلم القيادة فى “موسكو” أن هذا ليس فعلا ضدكم.. بل أرجوك أن تنقل لهم أننى سأكون سعيدا بتعزيز وجودكم فى مصر.. وتم إعلان القرار يوم 2 مايو, وبعدها بأربعة وعشرين ساعة إستقبل “وليام روجرز” وزير الخارجية الأمريكى.. ماحدث جعل “اللمبات الحمراء” تعمل فى “واشنطن” وكذلك فى “موسكو”!! تحدث بعدها فى شهر فبراير عام 1972.. عن علاقة مصر مع الاتحاد السوفيتى فى خطاب إلى الأمة كما كان يحب وصف خطاباته وقتها.. قال بوضوح: “هناك حملات تشكيك مستمرة فى علاقتنا مع الاتحاد السوفيتى.. هدفها تقويض علاقتنا مع الصديق حتى نبقى وحدنا ويسهل عزلنا والقضاء علينا”!!
فى الخطاب قال “أنور السادات” للشعب: “الاتحاد السوفيتى لم يطلب منا شروط لمساعدتنا فى إزالة آثار العدوان.. أمريكا هى التى تحاول دائما أن تفرض علينا شروطها المسبقة.. لذلك أقول بوضوح أن أحد لم يستطع أن يفرض شروطه على عبد الناصر.. وأن واحدا لم يستطع أن يفرض شروطه على.. ولن يستطيع أحد أن يفرض شروطه على ثورة يوليو”.
ثم أضاف قائلا: “سبق أن قلت أننى سوف أعطى تسهيلات للأسطول السوفيتى فى الموانىء المصرية.. ردا ووفاء لموقفه معنا عام 1967, عندما فقدنا ثمانين بالمائة من سلاحنا.. ما الذى فعله الاتحاد السوفيتى؟! أقام جسرا جويا بين مصر وموسكو.. وخلال أربعة شهور كان قد عوضنا عن خسائرنا, قبل أن ندفع أو حتى نتكلم عن ثمن السلاح ليكتمل أول خط دفاعى عندنا” ثم شرح أكثر فقال: “أعطانا الاتحاد السوفيتى ما قيمته مائة مليون دولار أمريكى أسلحة كهدية دون مقابل.. لذلك أعتقد أن مصلحتنا فى أن يكون أسطول الاتحاد السوفيتى موجود فى البحر الأبيض المتوسط”!!
يوم 6 يوليو عام 1972 إحتمع “أنور السادات” مع الأمير “سلطان بن عبد العزيز” وزير الدفاع السعودى, فى طريق عودته من “واشنطن” وبعدها بيومين – 8 يوليو – إستدعى السفير السوفيتى “فينوجرادوف” للقائه فى استراحة القناطر الخيرية.. قال له: “أشكر الاتحاد السوفيتى على ما قدمه لمصر, لكننى أريد وقف خدمات الخبراء السوفيت إعتبارا من 17 يوليو”!!.. ولم يلتفت إلى “معاهدة الصداقة” التى سبق أن وقعها معهم.. بعث “بريجينيف” الأمين العام للحزب الشيوعى السوفيتى رسالة له, قال ضمنها: “من حقنا أن نذكركم بما تحدثتم به حول النشاطات المتزايدة للقوى الرجعية داخل مصر.. وما حدث يفرض علينا أن نسألكم.. ماذا يحدث فى مصر؟! فنحن نتطلع إلى أجوبة صريحة على أسئلتنا”!!
يعتقد الذين يمارسون السياسة على طريقة “معاوية بن أبى سفيان” أن هذا ذكاء.. يذهب الذين يمارسون النفاق على أنه هواية, إلى أن الدهاء يفرض ذلك.. هذا حقهم.. وهؤلاء الذين صفقوا لقرار طرد الخبراء السوفيت.. كانوا أنفسهم الذين صفقوا لتوقيع “معاهدة الصداقة” ورغم أنهم قيادات “الاتحاد الاشتراكى” صفقوا لصدور قانون الاستثمارات الأجنبية.. شاركوا فى حملات تشويه القطاع العام وإدانة قانون الإصلاح الزراعى..
كانوا يعتبرون “أنور السادات” رمزا للوفاء حين يذكر “عبد الناصر” على أنه “زعيمنا” ثم اعتبروه شجاعا فى تمكين أعداء “الجمهورية الأولى” ليطلقوا عليها النيران من كافة الاتجاهات.. لذلك جعلوه “بطل الحرب والسلام” والرئيس الديمقراطى.. حتى عندما جمع 1553 من كافة الاتجاهات, ووضعهم فى السجون تحت وصف “التحفظ” باعتباره يختلف عن “الاعتقال” وهم أنفسهم الذين كانوا قد صفقوا لقرارات رفع الأسعار قبل مظاهرات يناير 1977.. ثم اعتبروا “تحريك الأسعار” لا علاقة له برفع الأسعار.. فالتحريك “يصب فى مصلحة المواطن” ليتم اعتماد “الصب فى المصلحة” أسلوب حكم!!
التاريخ ليس “قصص مسلية” للشعوب!!
التاريخ أهم مدارس الشعوب.. لذلك حين نقلب صفحاته سنجد أن “إسماعيل صدقى” رئيس وزراء مصر قبل الثورة – مرتين – وقف يوم 15 يونيو عام 1946 أمام “مجلس الشيوخ” ليقول كلاما غريبا: ” نحن حكومة بيضاء لشعب أحمر” ثم طلب الموافقة على قوانين تمكنه من مكافحة الشيوعية فى البلاد!!.. وهنا يصبح التوضيح ضروريا وواجبا.. معلوم بالضرورة أن “إسماعيل صدقى” كان أحد رموز “ثورة 1919” وشغل مواقع وزارية, حتى أصبح رئيسا للوزراء عام 1930 ليقدم على إلغاء دستور 1923.. ثم أصدر دستور 1930 على مقاس “الملك فؤاد” وأسس حزبا أسماه “حزب الشعب” ليحكم به ثلاث سنوات – لاحظ أنه كان مدنيا – برؤية رجل مال وأعمال معروف – كان مدنيا – لم يصمد أمام مقاومة ساسة هذا الزمان.. سقط ومعه دستوره, وعاد دستور 1923 ليقول بعدها عن أعضاء وقيادات حزبه: “للأسف اعتمدت على رعاع”!!.
ولما تولى منصب رئيس الوزراء فى “زمن الولد الذى حكم مصر” واسمه “فاروق” تحالف مع جماعة “الإخوان” لمكافحة الشيوعية.. لكنهم تركوه وذهبوا إلى التحالف مع الشيوعيين فى مرحلة ما.. ربما لأنهم يقدرون زمن “الخليفة معاوية” لإيمانهم بأن “إعادة الخلافة هى الحل”!!
كان العمال والطلبة “صداع مزمن” فى رأس “أنور السادات” والذين حكموا بعده!!
أصبح ضروريا التخلص منهم.. كان السبيل هو تصفية “القطاع العام” وتسطيح وعى الجامعات!!
جاءت “الروشتة” من خلف المحيط ووراء البحر.. يجب أن يكون للقطاع الخاص دور فى تطوير التعليم.. لن يحدث هذا دون رفع رايات “مجانية التعليم خربت البلاد” لتدور عجلة جهنمية, وكانت تزداد سرعتها حتى أن رموزا ناصرية ذهبوا للاستثمار فى التعليم الخاص.. وقيادة سفينة التعليم الأجنبى.. فقد اكتشف الذين احترفوا “الانتهازية” أن منهج “الجمهورية الثانية” أصبح أمرا واقعا!!
قام “القطاع العام” على أكتاف عمال جذورهم ترجع إلى “زمن الحزب الوطنى المصرى” عندما تولى قيادته “محمد فريد” وذهب إلى تأسيس نقابات عمالية وجمعيات تعاونية.. تعلموا جيلا بعد جيل أن الصناعة تعتبر أسمى معارك الوطن.. وجدوا ضالتهم فى “ثورة 23 يوليو” برهانها على الفلاحين والعمال والطلبة, إلى جانب “نخبة” جاءت من الزمن نفسه.. تطورت بمعارك فكرية وثقافية, إضافة إلى ما حصل عليه بعضهم من شهادات علمية من أرقى جامعات الغرب.. كان “عزيز صدقى” أحدهم, ولم تخطئه القيادة السياسية التى أوكلت إليه المهمة المقدسة لتصنيع مصر.. ولأنه يتمتع بفهم شديد الوعى, حقق نجاحا مذهلا بسواعد العمال الذين احترمهم.. بقدر ما وجدوا فيه من علم وكفاءة لا يقلان عن إخلاصه ووطنيته.. تلك السبيكة الصلبة, كان يصعب ضربها أو تفكيكها بسهولة.. وهذا جعلهم أهم الفئات التى تستهدفها سياسة وأفكار “الخداع الاستراتيجى” على طريقة “معاوية بن أبى سفيان” فى ثوب عصرى!!
إستوعبت الجامعات أبناء العمال والفلاحين, وفتحت لهم أبوابها وأحضانها.. لنجد جيلا من الطلاب كان واعيا بتضحيات الذين سبقوهم خلال ثورة 1919 حتى أحداث عام 1946 التى سقط خلالها عشرات الشهداء للمطالبة بالاستقلال.. تمرد بعضهم على الثورة واختلف معها.. اصطدموا أحيانا.
ووصل الأمر إلى حد المواجهة واعتقال بعضهم.. كان بينهم محمد مندور ولويس عوض وفؤاد مرسى واسماعيل صبرى عبد الله وعبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم وغيرهم.. لكنهم جميعا كانوا يملكون أفكارا لا تتناقض أو تتقاطع مع “ثورة 23 يوليو” لكنهم يختلفون على التفاصيل.. لذلك سنجدهم استطاعوا فرض احترامهم على القيادة السياسية – عبد الناصر – الذى لم يسقطهم من حساباته فى كل الأحوال.. هؤلاء كانوا يملكون تأثيرا على الطلاب بصفة خاصة, بما أعطاهم من فرص فى أن يكون لهم مكان بشكل أو بآخر.. ونجحوا فى إضافة وعى ومعرفة لأجيال من الشباب, إضافة إلى آخرين أمثال “رفعت المحجوب” و”كمال أبو المجد” فضلا عن الصحف بكتابها الكبار.. كما أن “الاتحاد الاشتراكى” رغم كل سلبياته وعيوبه كان يلعب دورا مهما فى استيعاب الشباب بصفة عامة, والطلاب على وجه الخصوص.
يذكر التاريخ “غضبة الجامعات” فى أعقاب نكسة يونيو بمظاهرات عام 1968 العارمة.. كانت هذه هى المرة الأولى منذ قيام “ثورة 23 يوليو” التى تشهد تفاعلا جماهيريا هادرا بهذا الشكل.. إستوعب “عبد الناصر” هذا البركان.. أعلن “بيان 30 مارس” وتحدث عن “سيادة القانون” و”دولة المؤسسات” والتخلص من “مراكز القوى” وكلها المعانى التى أخذتها “الجمهورية الثانية” وركزت عليها بطريقة توحى بأنها جديدة.. ولعب عدد من الصحفيين الذين كانوا يطمحون إلى وراثة أو خلافة “محمد حسنين هيكل” دورا فى أن يجعلوا القديم جديدا..
ورغم ذلك كان صعبا على القيادة السياسية الجديدة – أنور السادات – التقرب من الطلاب, خاصة وأنه هاجم فى خطاب ألقاه نهاية ديسمبر عام 1971, تنظيم الطلاب لندوات تضامن مع الثورة الفلسطينية بكلية الهندسة – جامعة القاهرة – ليشتعل الطلاب غضبا, خاصة وأنهم كانوا يتابعون ما يتردد عن مبادرات تعرض السلام.. أزعجهم الرهان على “مبادرة روجرز” لتكريس “حالة اللاسلم واللاحرب” بعد أن تخطى “أنور السادات” ما سبق أن أعلنه حول “عام الحسم” ثم حديثه عن “عام الضباب” مع إعلان قرار رفع العزل السياسى عن 12 ألف سبق حرمانهم من الحقوق السياسية بعد التأميم!!
الحقيقة أن “الضباب” كان داخليا, والإشارات المتضاربة والمتناقضة أربكت المشهد.. أو لنقل أضافت ارتباكا على ارتباك.. دفع ذلك إلى انفجار غضب العمال الذين اشتموا رائحة كريهة تجاه القطاع العام بفرض قيادات رشحتها الأجهزة الأمنية, تفتقد إلى الكفاءة وتفاخر بالعداء للعمال.. وعلى الجانب الآخر استشعر الطلاب خطرا, بظهور طلائع “الجماعات المفقوسة عن الإخوان” رافعة راية “الجماعة الإسلامية” المشمولة برعاية لا تخطئها عين.. يضاف إلى ذلك جرأة على الحرم الجامعى من جانب قوات الأمن فى جامعة القاهرة وغيرها من الجامعات.
غضب العمال والطلاب وتفجر مظاهراتهم, لفت نظر النقابات التى كانت تتمتع بحيوية وعافية.. وكلهم لاحظوا إعلان أجهزة الأمن عن اكتشافها “مؤامرة” فى نهاية شهر يناير عام 1972, زعمت أن العمال والطلاب يخططون للهجوم على القاهرة.. ونشرت الصحف أن اتفاقا انعقد بين الطرفين على أن يهاجم أربعة آلاف من طلبة جامعة عين شمس شمال العاصمة.. ويهاجم أربعة آلاف عامل من “شبرا الخيمة” شرق القاهرة.. ويتكفل أربعة آلاف عامل من “حلوان” بمهاجمة الجنوب.
ثم يتولى غرب القاهرة عشرة آلاف طالب من جامعة القاهرة.. وجاء ذلك ردا على بيانات ومنشورات كان يصدرها الطلبة والعمال لإعلان رفض مشروع “روجرز” والمطالبة بإلغاء الرقابة على الصحف, وإلغاء امتيازات كبار الموظفين مع تقديم الدعم للمقاومة الفلسطينية حتى تحرير الأرض وإزالة آثار العدوان.. صدرت ثلاثة بيانات عن نقابات “الصحفيين” و”المحامين” و”المعلمين” لدعم الطلاب والعمال وإعلان التمسك بمواثيق الثورة وضمنها “الميثاق الوطنى” و”بيان 30 مارس” إضافة إلى “برنامج العمل الوطنى” الذى أعلنه “السادات” يوم 23 يوليو عام 1971.
واعتبرت الولايات المتحدة الأمريكية العدو الرئيسى والثابت للقضايا العربية!! وكل هذا فرض أن يتوجه الرئيس لهؤلاء بخطاب يوم 25 يناير 1972.. أملا فى تهدئة الأجواء.. لكنه استخدم تعبير ظهر لأول مرة – القلة المندسة – وتحدث عما أسماه “الإسفاف” وأنه لن يسمح بالخروج عن “الشرعية” ومحاولات إشعال “الفتنة” وكلها كانت مترادفات جديدة!
ثم كان أن ظهرت كلمة “الإرهاب” عندما هاجم عددا من الطلبة الذين يمثلون “الجماعة الإسلامية” زملائهم بالجنازير والسلاح الأبيض.. ليطلب بعدها فى أول يناير عام 1973 رئيس الجمهورية من البرلمان تشكيل لجنة تقصى حقائق.. إنتهت إلى تقرير نشرته الصحف, وأكد على أن مستقبل العمال والطلاب مع “الجمهورية الثانية” سيأخذ نفقا معتما.. وقد كان!!..