منوعات

أحمد الشهاوي يكتب : المَجْدُ للأبيضِ وَالأَسْوَدِ

لا أستطيعُ أَنْ أكتبَ بغيرِ الأَسْوَدِ، فهو الَّلونُ الذي أراني فيه متحقِّقًا وفاعلاً وخالقًا صُورتي وَكَيْنُونتي.
الأسودُ للشِّعْرِ، الأسودُ السَّيَّالُ الدافقُ الذي ينطقُ بما أَحْمِلُ، الذي يُفكِّرُ معي.

لا شكَّ أنَّني جَرَّبتُ وأجَرِّبُ دومًا أقلامًا جديدةً، وأستعرضُ الأنواعَ الحديثةَ من الأقلامِ التي تَحْمِلُ الأَسْوَدَ في بَاطِنِهَا.

ولا أستطيعُ أن أتخيَّلَ أحدًا يكتبُ بِغَيْرِ هذا الَّلونِ. اللونُ الذي يعيدُ خَلْقَ العالمِ وتركيبَهِ من جديدٍ. وليس الأسودُ لونُ ما أَخُطُّه على الورقِ الأبيضِ غير المسطورِ، لكنَّهُ لَوْنُ ملابسي، ولَوْنُ غرفةِ نومي، ولونُ أشياء حميمةٍ في حياتي.
ثم إنَّ الورقَ المسطورَ يُشْعِرُني أنَّه وَرَقٌ مكتوبٌ سَلَفًا، مُسْتَهْلَكٌ، كما أنَّ السُّطورَ تُقَيِّدُني، أعتبُرها قضبانًا لزنزانةٍ سَاعَةَ أكتبُ. أمَّا الأَوَرْاقُ البيضاءُ من دون تَدَخُّلٍ في تسطيرهِا، فتحملُ حريتي وَنَزَقِي وَثَوْرَتي، وثروتي في الُّلغةِ والبناءِ والصُّورةِ.

وأنا لم أستخدمْ الآلةَ الكاتبةَ يومًا ما في الكتابةِ، لأنَّني لم أَتَعَلَّمْ الكتابةَ من خلالها. وكذا رغم معرفتي الكتابة عن طريق الكمبيوتر فإنَّني لم أكتبْ سوى ثلاث قصائد (من رأسي إلى الشاشةِ مُباشَرَةً). وَكَانَ لديَّ مشروعٌ لأَنْ أكْمِلَ ديوانًا أَكْتُبُهُ بحيث يكونُ الكمبيوتر وسِيطَ الكتابةِ، لكنَّ الفكرةَ خَمَدَتْ نَارُهَا ، ولم تتأجَّج ثانيةً.

وربَّما فيما بَعْد تَتَغيَّرُ أشياءٌ كثيرةٌ في طرائقِ كتابتي ، خُصُوصًا أنَّني أُطوِّرُ أدواتِ كتابتي الشعريةِ من ديوانٍ إلى آخر، لكنِّي مازلت أرى أنَّ للوَرِقِ الأبيضِ والحِبْرِ الأسودِ ، والإمساكِ بالقلمِ لَذَّةً لا تعادلُها لَذَّةٌ سوى الفرحِ باكتمالِ النصِّ وخروجِهِ في شكلٍ أرتضيه كَشَاعرٍ له.

ولأنَّني اعتدتُ الكتابة بيميني منذ الطفولةِ، وحتَّى كتابةِ هذه السطور، فَأَرَى – حتَّى لو كتبتُ فيما بعد عن طريقِ الكمبيوتر – أَنَّ هذه الطريقةَ مضمونةٌ ، ولا مشكلات تقنية مُعَقَّدة وراءها، خُصُوصًا أنَّ زملاءَ لي فقدوا أعمالهم (من الكمبيوتر) إِثر أخطاءٍ غير مقصودةٍ ارتكبوها.

كما أنَّ الكتابة (يدويًّا) لها فَرَحٌ خَاصٌ، وتمنحُ الشَّاعرَ فُرْصَةً لأنْ يُشكِّلِ حَرْفَهُ بتؤدةٍ خُصُوصًا من يتمتعون بخُطوطٍ جَيِّدةٍ مثلي، فمثلي – وأنا مولعٌ بالفنِّ التشكيليِّ وتكوين الصورةِ – يَلْعَبُ بحروفِهِ ويزخرفُها ساعةَ ميلادها وَيَضْبِطُهَا ، بحيث يعتقدُ من يقرأها – في التوِّ – أَنَّه تمَّ الانتهاءُ منها وتبييضها.

والكتابةُ بيميني صَارَتْ جُزْءًا من حياتي، وارتباطًا نَفْسيًّا بل روحيًّا، لا أستطيعُ الفَكَاكَ منه أَبدًا.
ولأنني لم أَعُدْ أكتبُ شعرًا متمثلاً في القصيدةِ المُفْرَدَةِ منذ صدورِ مجموعتي الشعريةِ الأولى “ركعتان للعشق” في عام 1988 ميلادية، وصرتُ أكتبُ – فقط – الكتابَ الشعريَّ، ذا السياقِ الواحدِ، والُّلغةِ التي تَتعدَّدُ وتتأوَّلُ، والبناء الذي يجمعُ عديدًا من الأبنيةِ داخله، فأنا طالما دخلتُ في مشروعِ كتابٍ شعريٍّ لا أخرجُ منه حَتَّى أُكْمِلَهُ، فَقَدْ أكتبُ كُلَّ يومٍ، وأنتهي من الكتابِ الشعريِّ في شهرٍ أو شهرينِ أو سنةٍ، ولكنَّني أظلُّ طُوالَ الوقتِ في حالةِ كتابةٍ حتَّى ولو لم أَخُط حَرْفًا.

فأنا أؤمنُ أنَّ الشَّاعرَ لابدَّ أَنْ يعيشَ الشِّعرَ يوميًّا، وألاَّ يكونَ الشِّعْرُ زائرًا أو ضيفًا يأتي في أوقاتٍ، ويغيبُ في أوقاتٍ أخرى، وتلك طريقةٌ يتعوَّدُها الشَّاعرُ الذي لديه مَشْرُوعٌ مَهْمُومٌ به، ويريد أن يُحَقِّق شيئًا في حياته، فالجلوس إلى المكتبِ يوميًّا طريقةٌ مُثْلَى لأيِّ مبدعٍ، بحيثُ يعيشُ الكتابةَ، ولا يَغْتربُ عنها أو تُخاصمُه، أو تجعله خِصْمًا لها.

لذلك أنجزتُ أعمالاً مثل “لسان النَّار”، قُلْ هي” ، “كتابُ الموت”، “أحوالُ العاشق”، “كتاب العِشْق”، “الأحاديث”، “الوَصَايا في عِشْق النِّسَاء” وغيرها بطريقةِ “الكتابِ”، لا بطريقةِ “المجموعةِ”، لأنَّنا – نحن العرب – أُمَّةُ الكِتَاب (القرآن – الأحاديث القدسية الأحاديث النبوية، الكتبُ الأساسية في النثر العربي، كُتب الصوفية خُصُوصًا ابن عربي، السهروردي ، النفّري، وغيرهم).

وما “المجموعة الشعريةً إلاَّ ترجمةٌ حرفيةٌ لـ Collection Poems ، بينما الكتابُ الشعريُّ أو الديوانُ الشعريُّ أَمْرٌ آَخَرُ. حيث إنَّ المجوعةَ هي جَمْعٌ لقصائد كتبها الشَّاعرُ في أوقاتٍ متفرّقةٍ، وتتضمَّنُ رؤىً عديدةً، ولغةً متفاوتةً، ومستوُىً متراوحًا.

والكتابةُ للكتابِ غيرُ الكتابةِ للمجموعةِ الشعريةِ، ففي الكتابِ أكونُ في حالةٍ تحدٍّ، واستنفارٍ ، وَشَحْذٍ لطاقتي، وَابْتِعَاثٍ لمخيلتي، وَرَصْدٍ لسماواتِ رُوحي، وَحَرْثٍ لأَرْضي.

وبعد ما أَفْرَغُ – أو هكذا أتصوَّر أَنَّني أنهيتُ كتابي الشعريَّ – أعودُ إليه أكثرَ من مرَّةٍ ولكن على فتراتٍ متباعدةٍ، بحيث تحدثُ فجوةٌ بيني وبينه، وأتصَّورُ أنه لم يَعُدْ يخُصُّني، وأتعامل معه بشكلٍ نقديٍّ صارمٍ، وَأَنَا من الذين يؤمنون بإعمالِ الحذفِ أكثر من إضافةِ حرفٍ واحدٍ. وقد أحذفَ نصوصًا كاملةً لا أكونُ راضيًا عنها ، أو أراني كتبتُهَا من قبل، أو أعدتُ كتابةَ النصِّ أكثر من مرةٍ في الكتابِ. وهكذا فأنا أُحَكِّكُ نَصِّي وَأُشذِّبُهَ، وأحذُفُ منه، وأفعلُ فيه مثلما كان يفعل الشَّاعرُ العربيُّ طوال حَوْلٍ كاملٍ حَتَّى تظهرَ حوليتُهُ الشعريةُ، وأرى أنَّ العَرَبَ هُم أولُّ من استخدموا تقنيةَ الحَذْفِ في الكتابةِ، قبل أَنْ تشيعَ في الغربِ.

ولي عددٌ من المقرَّبين أَعْرِضُ عليهم كتابيَ الشعريَّ قد يصلون إلى عشرةٍ وهم مُنْتشرون في البلدانِ العربيةِ وليس في مِصْرَ فقط، وأتلقَّى ملاحظاتهم بعنايةٍ وتركيزٍ ، ثم أُعيدُ قراءَةَ كتابي على ضوءِ هذه الملاحظاتِ، وقد فعلتُ ذلك مع “لسان النار” ، و”قُلْ هي”، و”كِتَّابُ الموتِ” ، و”الأحاديث – السِّفْر الثاني” وغيرها بشكلٍ أساسيٍّ، وأرى أَنَّها طريقةٌ مفيدةٌ لي ، حيث أرى عيوبيَ ونواقصيَ من خلال عيونِ المقرَّبينِ مني دُونَ خديعةٍ أو تجميلٍ أو مُجَامَلَةٍ، فالشَّاعر ليس نبيًّا ، ونصُّه ليس مقدسًا، ويحتملُ التغييرَ والتعديلَ، وَالمُرَاجَعَةَ.

ولا أحدَ يَنْسَى أَشْهَرَ قصيدةٍ في القرنِ العشرينِ (الأرض الخراب) أو (اليباب) The Waste Land لـ (ت.س.إليوت) وما فعله إزراباوند بها حيث حَذَفَ ما يزيدُ على ثلثيْ القصيدةِ. وَرَأَى أَنَّ البقيةَ ” لا تصلح ” لأن تَظْهَرَ للقُرَّاء، ولما ظهرت بعد ذلك على يد الباحثين، عرف القُرَّاءُ لماذا كان باوند مُحِقًّا في حَذْفِ ثلثيها.
الكتابةُ مُرَاوَغَةٌ وَ مُرَاوِغةٌ في الآنِ ذاتِهِ.

وَعَلَى المرءِ أَنْ يعيشَ عبدًا لحِبْرهِ، وقصيدتِهِ، وألاَّ تَشْغَلُهُ أمورُ الحياةِ الدنيا من التوافِهِ المستهلكاتِ للوقتِ والرُّوحِ.
وليظلُّ الورقُ زادًا
والحِبْرُ ملاذًا لمن يكتبُ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى