أخبار مصر

الزواج والأسرة والأطفال… حلم بعيد المنال للمتعايشين مع «الإيدز»

حسام جمال عبد الشافي

حلم وردي ومستقبل مشرق كان محمد رفعت* يرسمهما لنفسه: وظيفة جيدة يجني من خلالها راتباً كافياً لشراء سيارة وشقة صغيرة بالتقسيط، ثم يلتقي فتاة أحلامه ويتزوجها وينجب طفلين أو ثلاثة.

كان الحلم على وشك التحقق، وتبدد. إذ اكتشف، وهو يستعد لتسلم وظيفة بإحدي دول الخليج، أن الفحوص المطلوبة للسفر تشير إلى إصابته بعدوى فيروس نقص المناعة البشرية المكتسبة HIV المسبب لمتلازمة الإيدز.

بين ليلة وضحاها، أصبح محمد ضمن فئة تتعرض للنبذ الاجتماعي في مصر والعالم العربي، وتلاحقها الاتهامات الأخلاقية وتحاصرها نظرات الحذر والخوف وتقل فرصها في تحقيق الأحلام العادية، هذه الفئة هي “المتعايشون مع مرض الإيدز”.

رقم في قائمة

أحدث الإحصاءات لإقليم شرق المتوسط لمنظمة الصحة العالمية عن مرض الإيدز يذكر أن عدد المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية في عام 2022 في الإقليم يقدر بنحو 490 ألفاً، بمعدل انتشار يبلغ نحو 0.1%، أي أن شخصاً جديداً من ألف يصاب سنوياً بالمرض.

وأكدت المنظمة الأممية في تقرير لها منشور علي صفحتها الرسمية أن هناك 38% فقط من المتعايشين مع فيروس العوز المناعي البشري في إقليم منظمة الصحة العالمية لشرق المتوسط على علم بحالاتهم.
ووضعت المنظمة هدفاً جديداً لها في اليوم العالمي للإيدز لعام 2023 يتمثل في أن تُدخِل بلدان الإقليم وأراضيه الاختبار الذاتي للكشف عن فيروس العوز المناعي البشري وتُوسّع نطاقه بوصفه طريقة إضافية لزيادة تشخيص هذا الفيروس.

وقالت المنظمة إن الاختبار الذاتي للكشف عن فيروس العوز المناعي البشري يتيح للأفراد حرية اختيار الوقت والمكان الملائميْن لإجرائه

وضم الإقليم 490000 متعايشًا مع فيروس العوز المناعي البشري في عام 2022 وفقًا لتقديرات منظمة الصحة العالمية وبرنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بفيروس العوز المناعي البشري/الإيدز. إلا أنه لم يُشَخَّص من هؤلاء الأشخاص إلا نسبة 38% فقط. وكان 27% فقط من بين الأشخاص الذين شُخِّصوا يتلقون العلاج؛ وتَمَكَّن 24% منهم من كبح جماح الفيروس، وتلقى ما يقدر بنحو 130 ألف شخص العلاج المضاد للفيروسات القهقرية في عام 2022.

تعكس ملابسات هذا الإحصاء واقعاً سلبياً لمرضى الإيدز في تلك المنطقة التي تغلب عليها الدول العربية المحافظة. فإلى ندرة الإحصاءات، يخشى معظم المصابين الإفصاح عن حقيقة إصابتهم، خاصة مع تجارب التعامل الأمني مع المصابين. وتشكك منظمة الصحة العالمية في تقاريرها الرسمية في حقيقة الأرقام الصادرة من مصر بشأن معدلات الإصابة بمرض نقص المناعة المكتسبة “الإيدز”.

ومع أن هذه الأرقام لا تعني لمحمد رفعت شيئاً، فهي تشير لواقعه وواقع المتعايشين مع المرض من خلال النظر إلى الخدمات التي حصل عليها بعد تسجيله في البرنامج الوطني لمكافحة الإيدز الذي يحرم منه الكثير من المصابين لغياب برنامج وطني للكشف عن الإصابة.

يقول رفعت إنه وجد بعض التوجيه بشأن مرضه منذ البداية. ويتابع: “حاول الأطباء شرح طبيعة المرض، هو مرض مزمن يشبه في طبيعته المستمرة والاحتياج الدائم للانتظام في تناول الدواء أمراض السكري والضغط وأمراض القلب”. ويحصل رفعت على أدويته بشكل منتظم كل شهرين من البرنامج الوطني لمكافحة الإيدز في وزارة الصحة والسكان المصرية.

هذه الإجراءات شجعت رفعت على إعادة إحياء حلمه في الزواج والإنجاب، إلا أن شروطه في شريكة الحياة أعادته إلى مربع العسر والصعوبة. يقول إنه يرغب في الزواج بمصرية غير مصابة بالمرض، إلا أنه يعلم علم اليقين أن أي فتاة غير متعايشة مع هذه الفكرة لن تقبل بالزواج منه، ويرد ذلك إلى “المفاهيم الخاطئة المنتشرة عن المرض وطرق العدوى والاعتقاد بأن عدوى فيروس HIV تقع نتيجة عدم مراعاة المسؤولية الشخصية (مثل ممارسة الجنس خارج نطاق الزواج) الذي يستحق عقاباً إلهياً في نظر المجتمع”.

متعايش بالإيدز ومن حقي الزواج

انضمّ محمد إلى مجموعة خاصة (سرية) على فيسبوك تحمل اسم “متعايش بالإيدز ومن حقي الزاوج” ولا تظهر في محركات البحث.

استسلم محمد أخيراً وفقد الأمل في الزواج من فتاة غير مصابة بالعدوى، وكتب عدة منشورات في صفحة المجموعة، يفصل بين كل منشور وآخر بضعة أشهر، يعلن من خلالها رغبته في الزواج من متعايشة بهدف الستر والحلال وتكوين أسرة، مذكراً بتعليمات منظمة الصحة العالمية حول الجنس الآمن والإنجاب في حالة المتعايشين مع فيروس HIV، وأنه يمكن لأبوين متعايشين مع الفيروس أن ينجبا طفلاً غير مصاب بالعدوى.

آمال رفعت تدعمها الوثائق العلمية، كما تؤكد الدكتورة جمانة هرمز المستشارة الإقليمية لوحدة مكافحة الإيدز والالتهاب الكبدي الوبائي والأمراض المنقولة جنسياً بالمكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية لمنطقة شرق المتوسط. وتقول : “يمكن للمتعايشين مع فيروس HIV أن يلدوا أطفالًا غير مصابين، لأن معظم النصائح المقدمة للمتعايشين مع الفيروس هي نفسها تُقدم لأي شخص آخر يفكر في إنجاب طفل، إلى جانب بعض الخطوات التي تستهدف تقليل احتمال انتقال الفيروس إلى الشريك غير المصاب وإلى الطفل”.

فإذا كان الشريك (الزوج) متعايشاً مع الفيروس والزوجة غير متعايشة، يعمل الشريك على حماية شريكته من العدوى كي لا تنقلها بدورها للجنين، إذ يتلقى الشخص المتعايش مع الفيروس (الزوج في هذه الحالة) علاجاً يستهدف خفض الحمولة الفيروسية إلى درجة يستحيل معها كشف الفيروس في التحاليل. هذا يجعل خطر انتقال الفيروس إلى الشريكة ثَم إلى الطفل بالغ الانخفاض، وتالياً يمكن أن يتحقق الحمل بطريقة آمنة.

أما إذا كان هناك شك في الحمل الفيروسي لدى الرجل فينصح بالتريث في الإنجاب واستخدام الزوجة للعلاج الوقائي PrEP لحماية نفسها من العدوى. ويمكن في هذه الحالة الحمل من دون خطر نقل العدوى للجنين.

أما إذا كانت الأم أيضاً متعايشة مع الفيروس فلا بد إذ ذاك أن تستمر في تناول طائفة من العلاجات خلال فترتي الحمل والرضاعة لضمان عدم تمرير الفيروس إلى الطفل أثناء الحمل أو الولادة أو من طريق الرضاعة.

آلام “صبرينه”

في الشهر الثالث من الحمل، طلب طبيب الأسرة من الجزائرية صبرينه** أن تجري عدة فحوص للاطمئنان على صحتها وصحة الجنين، ومنها تحليل الكشف عن فيروس نقص المناعة المكتسبة.

اكتشفت صبرينه من التحاليل أنها مصابة بعدوى الفيروس، وبعد استيعاب الصدمة سارعت إلى التفكير في جنينها، وإذا كانت لا تزال هناك فرصة لحمايته من الإصابة بالعدوى. توجهت إلى المستشفى الحكومي الذي نصحها به الطبيب، وعادت لتصارح أفراد أسرتها بأنها متعايشة مع فيروس HIV، وكان رد الفعل الأول لزوجها هو أنه هجرها وتركها مع جنينها رافضاً توسلاتها بالبقاء معه، أو حتى إجراء تحليل الإيدز ليطمئن على نفسه. تقول صبرينه إنها اكتشفت لاحقاً أنه هو الذي نقل العدوى إليها.

قررت الأم الشابة الالتفات إلى صحة جنينها الذي بات أولويتها، فتناولت الأدوية المطلوبة لكن قسوة الفيروس والضغوط النفسية الشديدة التي تعرضت لها وتأخرها في العلاج أدت إلى ولادة جنينها ميتاً.

رغم ذلك، تعتبر صبرينه نفسها محظوظة لأن عائلتها المكونة من أخيها وأمها وشقيقتها استمروا في دعمها ومواساتها وإعطائها الأمل في أنها قد تحقق حلمها بالأمومة قريباً مع اتباعها الإجراءات التي لم تحظ باتباعها في حملها الأول. ولكن يبقى العائق هو تلك الوصمة المرتبطة بالمرض والتي قد تحرم الشابة الجزائرية من الزواج والإنجاب.

غياب الصراحة

كان يمكن أن تلد صبرينه طفلها سليماً صحياً، وغير مصاب بفيروس نقص المناعة المكتسبة لو أن زوجها صارحها بإصابته مبكراً.

تقول الدكتورة هرمز: “إذا كانت الزوجة متعايشة مع الفيروس، يجب أن تتلقى علاجاً لخفض الحمل الفيروسي إلى درجة لا يمكن اكتشافه بالتحاليل، ويفضل أن يتم ذلك في الثلث الأول من فترة الحمل (أي خلال الأشهر الثلاثة الأولى) وهو ما لم يتوفر لصبرينه.

وتضيف: “بالإضافة إلى ذلك يتم علاج الطفل وقائياً فور ولادته. وتُقدم للمرأة إرشادات خاصة بالرضاعة تضمن الصحة للطفل وتخفض احتمال انتقال العدوى بالرضاعة. أما لحماية الزوج من العدوى فيمكنه اتباع علاج PrEP إذا كان الحمل الفيروسي لدى الزوجة مرتفعاً”.

متي يتزوج المتعايش؟

الدكتورة إيفيت عادل، المسؤولة في قطاع الإيدز بجمعية كاريتاس مصر والاسكندرية تقول “الزواج حق لأي إنسان ولا يمكن حرمان المتعايشين منه. ولكن كل إنسان يمارس حقوقه ضمن ضوابط لا تضر بالآخرين، لذلك تقدم الجمعية المشورة الزوجية للمتعايشين وشركائهم بغية إعلامهم بالسلوكيات الخطرة التي يمكن أن تعرضهم لخطر الإصابة أو مضاعفاتها. كما يجري إرشادهم إلى سبل التغلب عليها. وتوفر كاريتاس بروتوكول منع انتقال العدوى من الأم المتعايشة إلى الجنين”.

وتضيف: “حالما يبدأ الزوجان المتعايشان اتخاذ قرار التخطيط للإنجاب، تساعدهما برامج كاريتاس – واحدة من أعرق الجمعيات الخيرية في مصر- من خلال المتابعة الدقيقة لحالتهما الصحية لمعرفة أفضل فترة للجماع بغية تحقق الحمل، والإعداد المسبق من طريق تحاليل بيان نسب الفيروس في الدم للشريكين وبدء بروتوكول علاجي لخفض تلك النسبة إلى الصفر قبل تحقق الحمل، وبعد ذلك يتم السماح للزوجين بعلاقة حميمة مرة أو اثنتين بدون استخدام واق ذكري لإتمام الحمل”.

وتواصل عادل: “منذ اليوم الأول للحمل يلتزم الزوجان بالبرنامج الوقائي، بعد توفير العلاج الثلاثي وعلاج مضادات الفيروسات والجرعات الوقائية للطفل وبيئة مناسبة للولادة تراعي حالة السيدة المتعايشة لاختيار الطريقة الأنسب للولادةً الطبيعية أو القيصرية، وبعد ذلك يتم اتباع برنامج الوقاية ما بعد الولادة”.

وتنصح مسؤولة برنامج الإيدز في كاريتاس مصر الأمهات المتعايشات بتجنب الرضاعة الطبيعية لصعوبة السيطرة على فرص انتقال الفيروس من خلالها إلى الطفل، كون الرضاعة تتطلب أدوية مرتفعة السعر وتترك احتمالاً ضعيفاً لانتقال الفيروس، مؤكدة أن وزارة الصحة بمصر تقدم ألباناً مدعومة للرُّضع بكميات أكبر للأم المتعايشة مع فيروس HIV.

قفزات رقمية

وتقول الدكتورة جمانة هرمز إن الإقليم يسجل إصابات جديدة بفيروس نقص المناعة البشرية في عام 2022؛ بلغت نحو 56ألفاً عام 2022. وتضيف: “هناك انتشار ملحوظ للأمراض المنقولة جنسياً بسبب قلة الوعي. ولا يتوقف هذا على الإيدز، بل يمتد إلى أمراض أخرى منقولة جنسياً.”.

ويوضح أن أحدث إحصاء صادر عن منظمة الصحة العالمية في العام 2022 أن “العدد التقديري” للمصابين بفيروس نقص المناعة البشرية 490 ألفاً إذ سجل اقليم شرق المتوسط 42 ألف إصابة في نفس السنة، فيما وصل إجمالي عدد الوفيات إلى 20 ألفاً، أي بزيادة قدرها 72.3% عن عام 2010

وبحسب المسؤولة الأممية، ظل معدل الانتشار في جميع الدول العربية أقل من 0.2% في العام 2022. ومع ذلك يشهد اقليم شرق المتوسط زيادة في معدلات الإصابات الجديدة والوفيات مقارنة بالعام 2010، فيما تبقى غالبية المصابين بالعدوى محرومين من المتابعة والعلاج وسبل الوقاية لمحيطيهم.

أطفال متعايشون

يقول الدكتور وليد كمال مدير برنامج الأمم المتحدة لمكافحة مرض الإيدز- مكتب مصر- “إن إجمالي عدد الإصابات للمتعايشين بمرض نقص المناعة المكتسبة “الإيدز” في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا خلال عام 2020 هو 230 ألفاً، من بينهم 220 ألفاً تتخطى أعمارهم الخامسة عشرة، و78 ألف امرأة تتخطى أعمارهن الخامسة عشرة، و140 ألف رجال تتخطى أعمارهم الخامسة عشرة، في حين أن عدد الأطفال الذين هم من عمر يوم إلى 14 عاماً بلغ 9600 متعايش.

الاغتصاب يدعم ارتفاع الإصابات

“الستيغما” أو الوصم الذي تتعرض له النساء يلعب دوراً ملحوظاً في نشر الإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية المكتسبة. يقول الدكتور كمال إن العلاج الثلاثي المضاد للفيروس أو ما يسمي “أدوية ما بعد التعرض” هو عبارة عن مجموعة من الأدوية التي تحصل عليها فئتان من الناس في سرية تامة وبالمجان، وهما مقدمو الخدمات الصحية في حال تعرضهم للوخز والنساء المعرضات للاغتصاب أو العنف الجنسي. إلا أن تجنب النساء الإبلاغ عن الاعتداء الجنسي خشية الوصم الاجتماعي والتعرض لجرائم الشرف يحرمهن من تناول تلك الجرعات الوقائية.

وأفادت دراسة للمركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية بأن الغالبية العظمى من حالات الانتهاكات الجنسية في مصر لا تشهد إبلاغاً للسلطات المختصة. وقدرت الدراسة أن نسبة الإبلاغ عن جرائم الاغتصاب والاعتداء الجنسي على الرجال والنساء لا تتخطى 10% من عدد الجرائم الحقيقي.

ويضيف المسؤول الإقليمي للأمم المتحدة أن أدوية ما بعد التعرض قبل أو بعد العلاقة الجنسية للحماية من مرض الإيدز بدون استخدام الواقي الذكري (الوسيلة الأنجح في الوقاية) لم تثبت كفاءتها بشكل علمي. لذلك لا يمكن الاعتماد عليها وتعميمها بديلاً عن وسائل الوقاية، خاصة إذا كانت العلاقة سلوكية أو مستمرة مثل العلاقة الزوجية بين شريكين أحدهما متعايش مع الفيروس.

ويختم: “أضف أن أسعار هذه الأدوية مرتفعة جداً وقد لا تكون هناك جدوى من إتاحتها للجميع خوفاً من إساءة استخدامها”.

 

(*) تم تغيير الاسم بناء على طلب المصدر.

(**) حُجب اسم الأسرة حرصاً على الأمان الشخصي للمصدر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى